نحتفل اليوم بذكري عزيزة وغالية علي قلب كل مصري، حين قال الشعب كلمته القاطعة يوم الثلاثين من يونيو عام 2013، معلنا انحيازه التام لمؤسسات الدولة الوطنية بما تمثله من هوية راسخة تضرب بجذورها في عمق التاريخ، رافضا محاولات طمس هذه الهوية وتشويهها، وفرض رؤية أيديولوجية لجماعة خارجة عن الإطار الوطني العام، فما كان إلا أن لفظها الشعب المصري بثبات وجسارة. وبعد مرور أربع سنوات علي هذا الحدث التاريخي الهام، حريّ بنا وقد تجاوزنا تفاصيل اللحظة وتعقيدات المشهد آنذاك، أن نتناول بشيء من التحليل المعمق بعضا مما تحقق علي صعيد سياسة مصر الخارجية، حيث كانت الدبلوماسية المصرية في طليعة المؤسسات الوطنية التي استجابت لنداء الوطن، بتكثيف التواصل مع الدوائر الرسمية والشعبية والإعلامية في مختلف أنحاء العالم علي نحو غير مسبوق، تصديا لكل من حاول وصم هذه الثورة بصفات لا تمت للواقع بصلة، ولشرح مسوغات التحرك الشعبي الذي أنقذ البلاد من مغبة السقوط في براثن الاقتتال الأهلي، وجنّب المنطقة ويلات موجة جديدة من العنف والفوضى. ومما لا شك فيه أن الأحداث التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط منذ مطلع عام 2011 كانت إيذانا بتحولات حادة، وتقلبات عاصفة، هدمت ثوابت ترسخت عبر عقود وأجيال، وفرضت علي أرض الواقع قواعد جديدة ومعطيات غير مسبوقة أصابت الحكومات والجماهير بكثير من التخبط والاهتزاز. ومن نافلة القول إن ثورة الثلاثين من يونيو قد دشّنت لما يمكن تسميته بمرحلة «الدبلوماسية الهادئة» في سياسة مصر الخارجية، والتي تشير إلي اعتبارات المواءمة بين متطلبات الداخل من جانب، عبر استكمال الاستحقاقات الدستورية وتثبيت الاصطفاف الوطني في مواجهة منعطف الفوضي وعدم الاستقرار الذي خيّم علي البلاد خلال الفترة السابقة، وبين الحفاظ علي مصالح مصر الخارجية التي تفرضها محددات جيواستراتيجية مستقرة منذ القدم، بمد جسور التعاون مع مختلف الشركاء الدوليين والإقليميين، وتجنب الدخول في صدامات من شأنها التأثير علي وضعية مصر الإقليمية واستقرارها الداخلي. فقد قامت هذه المرحلة علي مرتكزات أساسية، أولها: ضرورة الحفاظ علي تماسك الدولة الوطنية باعتبارها إطارا جامعا للمواطنين في المنطقة، ينضوي الجميع تحت لوائها دون الانجرار إلي دعاوي الفتنة والتقسيم علي أساس خطوط التباين العرقي والديني والمذهبي. ولقد رأينا كيف انجرفت بعض الدول الشقيقة مع هذا التيار الخبيث، الذي هوي بها إلي دوامات العنف والعنف المضاد. ومازالت مصر تبذل جهودا مضنية لطي هذه الصفحة المظلمة في ليبيا وسوريا، وفق رؤية مدروسة ومنهج قويم لا يبتغي سوي إنقاذ الشعوب من مهالك الصراع الدموي الذي لا يُبقي ولا يذر. وقد تأسس الموقف المصري تجاه هذه الأزمات علي رفض كل ما من شأنه تفتيت المؤسسات الوطنية القائمة، وذلك عبر الدخول في عملية سياسية تعتمد الحوار سبيلا لتقريب وجهات النظر، وتوسيع مساحات التلاقي وتضييق هوة الخلاف بين مختلف الأطراف. فقد استضافت القاهرة علي مدار الأعوام الثلاثة الماضية سلسلةً من اللقاءات المتواصلة مع مختلف ممثلي الأطراف المجتمعية والقبلية في ليبيا. وقد تمخض عن هذه اللقاءات الإعلان عن بيان القاهرة في ديسمبر 2016 والذي يعد بمثابة المرجعية الأساسية لحل الأزمة الليبية. كما تنخرط مصر بقوة في كل محاولات التوصل إلي تسوية للأزمة السورية في الاجتماعات التي انعقدت بجنيف ولوزان وغيرها، فضلا عن مشاورات مجلس الأمن، فاستضافت مصر لهذا الغرض اجتماعات مجموعة القاهرة للمعارضة السورية والتي تمثل طيفا معتدلا في الصراع الدائر، كذلك نجحت السفارة المصرية في دمشق في توصيل شحنات من المساعدات الإنسانية للشعب السوري الشقيق تضامنا معه في هذه الأوقات العصيبة. فإذا انتقلنا إلي الركيزة الثانية لهذه المرحلة، ألا وهي إعادة تعريف المباديء الحاكمة لتحركات مصر الخارجية، نلمس كيف استطاعت مصر بعد ثورة الثلاثين من يونيو أن تستلهم دورها التاريخي الذي لم يسع يوما للهيمنة أو محاولات بسط النفوذ، وذلك عبر الموازنة الدقيقة بين مقتضيات الحفاظ على الأمن القومى المصرى، و التمسك فى الوقت ذاته بمباديء حسن الجوار في إدارة العلاقات الدولية، ورفض التدخل في الشئون الداخلية للدول، واحترام الخصوصية السياسية والثقافية للمجتمعات. ويعد التوصل لاتفاق إعلان المبادئ بين مصر والسودان وإثيوبيا في مارس 2015 انعكاسا لهذا التوازن الدقيق في المباديء في إدارة أحد أهم الملفات في سياسة مصر الخارجية، ألا وهو ملف الأمن المائي. فقد كانت زيارة السيد الرئيس لأديس أبابا وخطابه أمام البرلمان الإثيوبي مبادرة تاريخية غير مسبوقة للتأكيد علي مباديء بناء الثقة، والتعاون، وتحقيق المكاسب المشتركة في علاقات مصر مع جميع دول وشعوب حوض النيل، مع عدم التفريط للحظة واحدة في أمن مصر المائى باعتباره خطا أحمر لا يقبل المساومة، وهو ما أعادت القيادة المصرية التأكيد عليه خلال القمة الأولي لدول حوض النيل التي اختتمت أعمالها بأوغندا قبل أيام. ولا تغفل مصر بحال من الأحوال أن رياح التغيير قد عرفت طريقها إلي دول المنطقة، حيث أصبح المواطن شريكا أساسيا في عملية صنع القرار بما في ذلك قرارات السياسة الخارجية، وهو ما يعد الركيزة الثالثة لسياسة مصر الخارجية لهذه المرحلة. وتحرص وزارة الخارجية علي ترجمة هذا المبدأ من خلال تواصلها المباشر مع المواطنين عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، فضلا عن تعزيز أطر الحوار مع الجاليات المصرية بالخارج، وتسهيل سبل الرعاية القنصلية التي تقدمها بعثات مصر في الخارج للمواطنين. كما أحرص بشكل شخصي علي إجراء لقاءات دورية مع المثقفين والمفكرين وشباب الجامعات لاستطلاع آراء هذه القطاعات الهامة في المجتمع المصري، والتعرف عن قرب علي تقييمهم لسياسة مصر الخارجية ومقترحاتهم لكيفية تطويرها. وإذ تواجه مصر معركةً داخليةً شرسة في مواجهة الإرهاب، تخوض بالمثل معركةً خارجيةً أمام العالم لمحاصرة قوي الظلام التي لا تكف عن العبث بأمن الشعوب واستقرارها. ولعل كلمة السيد الرئيس التي ألقاها أمام القمة الأمريكية العربية الإسلامية التي انعقدت بالرياض مؤخرا، كانت بمثابة مرجعية هامة في تناول ظاهرة الإرهاب بأبعادها السياسية والفكرية والتنظيمية. ولقد رأينا كيف تحولت رؤية السيد الرئيس بضرورة محاصرة الدول الراعية للإرهاب إلي خطوات ملموسة من خلال حزمة الإجراءات الأخيرة التي تم اتخاذها تجاه دولة قطر بالتنسيق بين مصر والسعودية والإمارات والبحرين. وارتباطا بهذا الأمر، أتاحت عضوية مصر في مجلس الأمن (2016-2017) فضلا عن توليها رئاسة لجنة مكافحة الإرهاب بالمجلس، مجالا واسعا لطرح الرؤية المصرية في محاربة الإرهاب من منظور شامل، حيث نجحت البعثة المصرية لدى الأممالمتحدة في نيويورك في استصدار قرار من مجلس الأمن يوم 25 مايو 2017 بإجماع آراء الدول أعضاء المجلس للترحيب بالإطار الدولي الشامل لمكافحة الخطاب الإرهابي ووضعه موضع التنفيذ، وهو الإطار الذى سبق أن نجحت مصر في اعتماده بالإجماع كوثيقة رسمية من وثائق مجلس الأمن. لا تتسع هذه السطور القليلة لرصد كل ما تم إنجازه خلال السنوات الأربع الماضية، ولكنني أردت أن أقدم تأصيلا لسياسة مصر الخارجية خلال تلك المرحلة المفصلية من تاريخنا المعاصر، والتي يمكن القول أنها انتقلت مؤخرا بالفعل من مرحلة « دبلوماسية الهدوء والتوازن» إلي دبلوماسية «تثبيت الاستقرار واستعادة الدور» في علاقات مصر الخارجية. فقد تم استكمال البنية المؤسسية الداخلية، وتبني برنامج شامل للإصلاح الاقتصادي نتطلع إلي جني ثماره خلال السنوات القادمة، ليكتمل المشهد بسياسة خارجية فاعلة تستند إلي رؤية واضحة رسمت القيادة المصرية ملامحها بعناية فائقة لاستعادة دور مصر الخارجى المؤثر في كافة الملفات ذات الأهمية الاستراتيجية والمصلحة القومية لمصر. إن الرؤية المصرية تنتهج الانفتاح علي العالم سبيلا للحوار والتواصل وتعزيز المصالح المشتركة مع مختلف القوي الدولية، دون تهاون أو تفريط في مصالح مصر، انعكاسا للميراث التاريخي الثري الذي فرض علينا مسئولية القيادة في هذه المنطقة من العالم، قيادة تتسم بالرشد والتروي وتغليب مصالح الشعوب علي طموح الأشخاص، ورفض السياسات التخريبية التي تسعي لإذكاء الفتن، مقابل التمسك بمباديء العيش المشترك التي تفتح أبواب المستقبل للجميع لتنمو الشعوب وتزدهر. وسيكتب التاريخ كلمته الفاصلة في النهاية، مذكّرا الأجيال القادمة بأن ثورة الثلاثين من يونيو أعادت مصر مرة أخري إلي صدارة المشهد الإقليمي والدولي بعد فترة وجيزة من الاضطراب، ونجحت باقتدار في درء الفوضى، والحفاظ علي دعائم الدولة، وإعلاء مصالح الشعب المصري وحقه الأصيل في حياة آمنة مستقرة علي أرضه. لمزيد من مقالات سامح شكرى;