فى أى أزمة سياسية رابحون وخاسرون، وفرص الربح أو الاستفادة تختلف من طرف لآخر وفقا لحساباته واستراتيجيته وقدرته على التأثير والفعل، وإذا كان مثلث الخليج المتمثل فى السعودية والإمارات والبحرين قد نجح فى عزل قطر وخنقها اقتصاديا وإقليميا فى قرار مشترك بقطع العلاقات مع الدوحة فى 5 يونيو الحالي، فإنه من العبث تجاهل استفادة أطراف أخرى خارجية من المشهد، وبدأت بالفعل فى استثمار ما حدث لخدمة مصالحها وأهدافها، وفى مقدمة هذه الأطراف تركياوإيران، وهو الأمر الذى ينذر بتطورات درامية مثيرة قد تغير كثيرا فى بوصلة الشرق الأوسط خلالد الأيام المقبلة. وكشفت الأزمة الأخيرة عن مخططات اللاعبين التركى والإيرانى للقفز على «الوليمة» القطرية واستباحتها لتعويض خسائر الدوحة السياسية والاقتصادية من ناحية، وتعزيز النفوذ الإقليمى فى المنطقة من ناحية أخرى، وتقوية شوكة الجبهتين التركية والإيرانية أمام سيناريوهات الغرب لاستغلال الفجوة الجديدة فى الخليج من ناحية ثالثة. وسياسيا، سارعت طهران إلى إنقاذ الزورق القطرى من الغرق بالاعتماد على التنسيق مع تركياوروسيا، عندما توجه وزير الخارجية الإيرانى محمد جواد ظريف إلى أنقرة بعد يومين من اندلاع الأزمة لمناقشة التداعيات مع الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، ثم لحق اللقاء اتفاق مع روسيا خلال قمة منظمة شنجهاى للتعاون على الخروج بموقف موحد انطلاقا من الحرص الروسى على حماية الاستثمارات القطرية فى القطاع البترولي، وحفاظا على التوازن المطلوب داخل مربع الخليج. ورغم الصراعات التاريخية بين الرئيس الإيرانى حسن روحاني، والحرس الثوري، فإن الثنائى قرر تجاوز الخلاف وترابط من أجل التضامن مع قطر عن طريق تأمين الحرس الثورى لقصر الأمير تميم خوفا من الانقلاب المحتمل ضده، وتزامن ذلك مع استجابة طهران لنداء المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عندما صرحت بضرورة أن تعمل تركياوإيران ودول الخليج على إيجاد حل للأزمة. وجددت المحنة القطرية الدماء فى العلاقات التركية الإيرانية بعد فاصل من التوتر والترقب تصاعدت وتيرته عبر الملف السوري، إلا أن ما تمر به الدوحة حاليا دفع الطرفين إلى تنحية الخلافات جانبا، والالتفات إلى ما هو أكثر خطورة وإلحاحا خصوصا بعد سقوط حليف استراتيجى وحيوى كقطر، وهو ما يقتضى إعادة ترتيب الأوراق والأولويات، وتنسيق الأدوار فى مواجهة التكتل الخليجى الذى يسعى إلى تجريد تركياوإيران تحديدا من أى أذرع لاختراق المنطقة سياسيا وعسكريا واقتصاديا. وبمجرد تفجر الأزمة، أصيبت أسواق المال والتجارة فى قطر بالكساد، فسارع الثعلب الإيرانى إلى إرسال شحنات الغذاء فور إعلان المقاطعة، وبادر العديد من المسئولين الاقتصاديين فى طهران إلى تحقيق مكاسب اقتصادية برفع مستوى التعاون الثنائى مع الدوحة من خلال تصدير ما تحتاجه الأخيرة من مواد غذائية وتخصيص ميناء بوشهر الإيرانى لهذا الهدف، فضلا عن فتح الأجواء الإيرانية أمام الرحلات الجوية القطرية، كخطوة لتصحيح مسار العلاقات التجارية الضعيفة بين البلدين مقارنة بالوضع مع تركيا، علما بأن حجم التجارة الخارجية لقطر بلغ 25 مليار دولار العام الماضي، وكان نصيب التبادل التجارى الإيرانى 144 مليونا فقط. وفى هذا السياق، خرج محمد لاهوتى رئيس اتحاد المصدرين الإيرانى من صمته إزاء الأزمة وأكد أنها فضحت تراجع بلاده فى الأسواق القطرية، مشددًا على ضرورة فتح شركات إيرانية كبرى على غرار تركيا فى الدوحة، وتمثل تصريحات لاهوتى اعترافا صريحا بأهمية السوق القطرية بالنسبة لطهران، ومن ثم دعا المؤسسات الإيرانية إلى التحرك ودعم المصدرين حتى لا يفقدوا هذه الفرصة، ويستفيد منها الأتراك، خصوصا وأن قطر تنفق 2٫1 مليار دولار من أموال تجارتها على الغذاء فقط. والنقطة الأخيرة أجابت عنها بسرعة الحكومة التركية التى تمكنت خلال 48 ساعة عقب المقاطعة من ملء أرفف المتاجر القطرية الفارغة بالبضائع التركية، تزامنا مع أول زيارة إلى الدوحة لمجموعة من رجال الأعمال والصناعيين المستقلين الأتراك لتقييم فرص العمل فى قطر ردا على المقاطعة، وزرع أقدام العثمانيين الجدد فى أرض الخليج، بالإضافة إلى مغازلة الحليف القطرى بالمساعدات التركية المتمثلة فى السلع الغذائية والمحاصيل الزراعية، انطلاقا من أن قطر تستورد 90٪ من احتياجات الغذاء، وتعتبر السعودية والإمارات من أهم شركائها التجاريين، وبالتالى ترحب الدوحة بأى طوق نجاة لانتشالها من الانهيار الوشيك. ولوجيستيا، وافق البرلمان التركى على إرسال قوات إلى قطر يقضى بإنشاء قاعدة عسكرية تركية فى الدوحة بناء على الاتفاقية العسكرية الموقعة بين الجانبين منذ عدة أشهر، ومع زيارة وفد عسكرى تركى رفيع المستوى للدوحة بقيادة نائب رئيس الأركان، ويشمل نائب قادة القوات البحرية وقائد الدرك، وإجراء مباحثات سرية مع مسئولى وزارة الدفاع القطرية. وكشفت مصادر تركية عسكرية أنه تم بحث اتفاقية لإرسال آلاف الجنود الأتراك لحماية الإمارة الخليجية والمنشآت المهمة فيها وعلى رأسها قصر تميم، علاوة على الحرس الثورى الإيراني، ويتولى الفريق التركى مهمة تدريب قوات بحرية وبرية قطرية، مقابل 8 مليارات دولار خلال 3 سنوات. ومن الواضح أن الحصار الخليجى الذى كان يرمى إلى عزل قطر وقطع شلال خدماتها لأخطر أعوانها : إيرانوتركيا، هو الذى دفع الجارة الصغيرة إلى الارتماء العلنى فى أحضان حلفائها والاحتماء بهم لكسر الخناق، بينما اغتنمت أنقرةوطهران الفرصة لوضع قطر على المائدة وتقسيم أجزائها بمنطق المساعدة وورقة الإغاثة، ولن تمنع الدبلوماسية الناعمة مع مثلث الخليج من جانب تركيا على وجه الخصوص من الانتباه إلى خطورة الموقف بعد أن فتحت الدوحة أبوابها وخزائنها لمشروعات وخطط وأفكار الدولتين الطامحتين باستمرار وإصرار لفرض السيطرة ونشر العملاء فى المنطقة بعد أن سقطت بين أيديهما مفاتيح البوابة القطرية.