اليونسكو ترجم كتاب «طوق الحمامة» كتراث عربى عالمى الجوائز والمناصب نقمة على صاحبها؛ إذا لم يكن جديراً بها!
كان من المفترض أن ينشر هذا الحوار بمناسبة عيد ميلاده، لكن القدر لم يمهله للاحتفال بهذه المناسبة، فرحل فى صمت قبل يومين من بلوغ عامه ال93حيث ولد فى السابع من أبريل عام 1924، وتحول مجرى الحوار من الاحتفال إلى الرثاء؛ ليحمل عنوانه «آخر حواراته للأهرام». واليوم ننشر هذا الحوار بعد حصوله على جائزة النيل فى الآداب وهو جزء من حقه الذى لم يحصل عليه فى حياته. انه العلامة د. الطاهر مكى كان يعتبر الأهرام بيته الثانى، ويحرص على قراءته يومياً له ولغيره منذ أن كان طفلاً فى القرية التى كان يصلها نسخة واحدة، يشترك فى ثمنها ثلاثة أفراد (خاله وشاويش النقطة والعمدة)، وكانت قيمة الاشتراك 120 قرشا فى السنة، وهى أول صحيفة خط فيها بالقلم عام 1945وهو ما زال فى العشرينيات من عمره ليكتب أول مقال عن العدوان الهولندى لإندونيسيا بعنوان «ضمير العالم فى إجازة»، بعد إعلان سوكارنو استقلال بلاده من مقر جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، وفى الستينيات أثناء دراسته للدكتوراه فى الأندلس أرسل للأهرام عدة مقالات، وبعض الترجمات لمجموعات قصصية إسبانية نشرت جميعها فى ملحق الأهرام. ولم تنقطع صلته بالأهرام طوال هذه السنوات حيث تم استضافته منذ بضعة أشهر؛ لتكريمه عن مشواره الإبداعى ومنحه نسخة من العدد الأول للجريدة بحضور عدد من القيادات، مؤكدا لهم امتنانه واعتزازه بهذه الهدية القيمة. وهو لم يسعَ إلى منصبٍ زائلٍ - رغم كل المناصب التى تقلدها والجوائز التى حصل عليها- حيث قال لى فى إحدى حواراته «إن هذه الجوائز والمناصب؛ إن لم يكن صاحبها جديراً بها فهي نقمةٌ ، ومردودها سلبي عليه ؛! لذلك وطَّنتُ نفسي على العمل الجاد واتقانه؛ وعدم انتظار الثناء والمديح من أحد؛ فأعظم الثواب؛ ما كان من المولى عزَّ وجلَّ» كان بالأمس القريب يوم ميلاده ولكنه لم يحضره، وعزاؤنا؛ ما تركه من تراثٍ أصيلٍ تتناقله الأجيال القادمة... وهذا الحديث الذى أجريناه معه قبيل غيابه، كان حواراً طويلاً تحدث فيه دون انقطاع عن رحلته الإبداعية وبعض القضايا الثقافية؛وأبدى لنا آراءه حول تحقيق التراث، وأفاض عن ذكرياته فى الأندلس وكيف كانت، ومعاركه التى خاضها من أجل الحفاظ على الشعر الحقيقي، ومحاربة الأدعياء! ومؤلفاته التى لا تزال مخطوطة على مكتبه : الأندلس تعد نقطة تحول فى حياتك العملية؛ فماذا تعني لك .. وكيف كانت فى ذلك الوقت؟ حصلت على البعثة من الحكومة الإسبانية، فأنا مدينٌ بثقافتى الأندلسية لإسبانيا التى قضيتُ بها ثمانية أعوام، فى ذلك الوقت كنا نحن الأرقى صناعة والأكثر ثروة، وعندما ذهبت إليها سألتهم: لماذا تمنحون بعثات ل (36 ) ألف طالب ومعونة دراسية؛ برغم أنكم بلد فقير - فى ذلك الوقت - فقالوا لي:إن هذا استثمار غير منظور؛ فهؤلاء الطلاب بعد حصولهم على الشهادة؛ منهم من يشترك فى مجلة ، أو يأخذ معه كتاباً إسبانياً أو يتزوج فتاة إسبانية ، وربما يأتي فيما بعد مرة أخرى؛ ليقضى إجازته الصيفية ( وهذا ما كنتُ أفعله منذ سنوات لأنها كانت أرخص من الإسكندرية بالنسبة لي )، هذا بالإضافة إلى أننا نُعطى المنحة للطالب على قدر الضرورة، وليس هناك طالب يستطيع أن يعيش بهذا المبلغ، فيُرسِل له أهله أو حكومته مبالغ مالية .. فهم أناس يعملون، رغم أنهم يحبون الحياة ويبدءون العمل في التاسعة صباحاً، وإجازاتهم كثيرة، لكن وقت العمل عندهم مقدس، وكان الحكم فى ذلك الوقت تسيطر عليه الكنيسة مع الفاشية، وأى إنسان يتصدى لتاريخ إسبانيا فى الفلسفة أو فى اللغة أو الأدب؛ كان لابد أن يعرف اللغة العربية؛ لأن لهم 800 سنة يتكلمون العربية، ويدينون بالإسلام. كما يهتمون بالتعليم اهتماماً بالغاً، وأعظم شهادة فى إسبانيا هى الزراعة، وكلية الزراعة هناك مدرسة عليا؛ لأن الدراسة التطبيقية تتوازى مع الدراسة النظرية والأبحاث، ولا يلتحق بها إلا الطلبة الأذكياء لأنهم بلد زراعي. لتحقيق التراث مكانة خاصة فى وجدان الطاهر مكى وكتابك «طوق الحمامة»من أشهر أعمالك المحققة .. فلماذا اخترت هذا الكتاب؟ وما هى قصته؟ عندما ذهبت للدراسة فى إسبانيا كنت مغروراً مثل الكثيرين فى الجامعات الآن، فسألت سعيد العريان ماذا أقرأ ؟ فقال لى «الحلل السندسية فى الأخبار الأندلسية» لشكيب أرسلان، وسافرت إلى إسبانيا وتوجهت لأستاذي جارسيا غوميث صاحب جائزة اوستورياس وهى أعلى جائزة إسبانية، فسألنى ماذا قرأت عن إسبانيا؟ فقلت له قرأت كل حاجة ..فقال: فهل قرأت طوق الحمامة لابن حزم؟ وكنت أسمع عنه لأول مرة ..فقلت له لا، ثم سألنى: هل قرأت المكتبة الأندلسية (مكونة من 12 مجلداً) ؟ فقلت له أيضاً لا. فقال لي: اذهب واقرأ هذه الكتب وتعال بعد سنة .. وبدأت أفتش عن طوق الحمامة بكل اللغات وأقرأ تاريخ الكتاب، فوجدتُ أن الطبعة الموجودة فى مصر فى ذلك الوقت مُشوهةً ومليئة بالأخطاء؛ فشعرتُ بالخجل، وأخذت على عاتقي، أننى بمجرد عودتى إلى مصر؛ أُحقِّق هذا الكتاب؛برغم أنه مخطوطة وحيدة؛ إلا أنه يمكن تصويب الأسماء والأماكن، وبذلتُ فيه جهداً كبيراً، واكتشفتُ أن اليونسكو هو الذى ترجم الكتاب إلى اللغات الأجنبية كتراث عربي عالمي، وآخر ترجمة ظهرت له باللغة اليابانية، وهو من أشهر الكتب وأكثرها قراءةً فى العالم . فى رأيك لماذا يمر تحقيق التراث حالياً بأزمة؟ مدرسة تحقيق التراث فى مصر ماتت، لأن العلماء غير موجودين، فقد ازدهرت هذه المدرسة ازدهاراً مختلطاً بالغش؛ أيام صدام حسين، الذى كان يدفع مبالغ باهظة للمحققين، أما نحن؛ فلا نُقدِّرهم ؛ فتغتنى المكتبة والناشر، أما المحقق؛ فيموت جوعاً؛ فهجر المحققون التحقيق؛ لذلك حاولنا فى دار العلوم أن نجعل تحقيق التراث فى موضوعات الماجستير والدكتوراه، وبالفعل طبقت على الماجستير، أما الدكتوراه فرأوا أنه لا يصلح فيها التحقيق؛برغم أن المخطوطة قيمتها فى مستواها الذى يُقَدِّره الأستاذ وليس الطالب! حياتك مليئة بالمعارك الثقافية .. فما هى أشدها بالنسبة لك؟ معركة الحفاظ على شكل القصيدة العربية، أو ما يسمى القصيدة العمودية والشعر الحر هى أشدها؛ وأنا ما زلتُ مُصِرّاً عليها، فالبعض يفهم خطأ؛ أن المحافظة على القصيدة العمودية تعني جمود الشعر، ولكننى أعنى المحافظة على المصطلح ؛ فالقصيدة لها شكل محدد، من يكتب بهذا الشكل يكتب شعراً، ومن يخرج عنه يسمى نثراً، مع أن النثر قديماً وحديثاً ليس أقل قيمة من الشعر بل هو أصعب! فأبو العلاء المعري؛ له شعر ونثر، وهو ناثرٌ أعظم منه شاعر، والجاحظ؛ كان ناثراً، ولم يكن شاعراً؛ لكنه ليس أقل قيمة من المتنبي! وفى عصرنا الحديث يعتقد البعض؛أن شوقى أعظم إنسان؛برغم أن المنفلوطى فى أيامه كان أعظم منه ، ولا تزال كتب المنفلوطى تطبع حتى الآن! أيضاً نجيب محفوظ الآن أعظم ناثرٍ؛ إذن؛ فالنثر صعب، والبروز فيه يتطلب موهبة، لكن ادعاء الشعر سهل، والبعض خلط الأمور! المستشرقون لهم دورٌ في نشر التراث .. تُرى هل هم شوَّهوا التاريخ الإسلامي؟ الرائد لا يكذب أهله، وهم لا يكتبون لنا، بل يكتبون لأهلهم ولا يكذبون عليهم، ولكن المشكلة أنه قد يخطئ؛ لذلك فالمستشرقون أصحاب الضمائر لا يكتبون فى النقد الأدبي؛ لأنه يحتاج ذائقة أدبية، وهم يفتقدون ذلك! وعندما كتبتُ الرسالة الصغرى - الماجستير- أعطيتها لأستاذي جارسيا؛ فسألني: مَن راجعها لك؟! فقلتُ له : لا أحد، فقال لي: إننى أدرس اللغة العربية منذ خمسين سنة ولا أجرؤ؛ أن أكتب خطاباً دون أخطاء! وأنت بعد سنةٍ تكتب رسالةً بأسلوبك دون أن يصححها أحد! إبحث عن مستشرق يُراجِع الرسالة ويصححها، ثم أقومُ أنا بتصحيحها مرةً أخرى؛ حتى تصلح للقراءة...المستشرقون يُخطِئون أحياناً، ولكنْ لا يقصدون الخطأ، خاصةً اليهود، ما يُحقِّقونه لا يكذبون فيه، وما يفهمونه قد يُخطئون فيه، ولكن ليس عن عمدٍ، ونحن فى التاريخ استفدنا منهم بلا حدود. وماذا تقول عن هؤلاء: د. حسين مجيب المصري، وديع فلسطين، ود.علي أبو المكارم؟ الدكتور حسين مجيب المصري - رحمه الله - رائد من رواد الآداب الشرقية، وهو صاحب جهد علمي مشكور، لكنه ظُلِمَ من الأوساط الثقافية والأكاديمية؛ لأن وجهته كانت شرقية وليست غربية! أمّا الأديب الكبير وديع فلسطين- أطال الله فى عمره - فهو من أصحاب الأساليب؛ والبراعة في الصياغة، والترجمة الأدبية الأنيقة، فضلاً عن إتقانه للترجمة من اللغة الإنجليزية إلى العربية والعكس ؛ ولا أدري لماذا تجاهله مجمع الخالدين بالقاهرة في عضويته في حين أنه عضو مجمعَي دمشق والأردن! وهو أكبر وأهم صحفي مصري وعربي الآن ، والدكتور علي أبو المكارم - رحمه الله - صاحب مدرسة نحوية مهمة على الصعيد العربي؛ وهو أديب روائي نالت عنه باحثة عربية درجة الدكتوراه من جامعة كامبردج عن الزمن الروائي في رواياته! فمتى يتم تكريم هؤلاء الثلاثة الكبار؟! وكيف ترى رحلتك الإبداعية بعد التسعين؟ أنا سعيدٌ بها، وراضٍ عنها، لو استقبلتُ من أمري ما استدبرت؛ وما غيَّرتُ شيئاً. بدأت فى كتابة سيرتك الذاتية .. فما الذى تريد أن تقوله للشباب من خلال هذه السيرة الضافية؟ هى رسالة موجهة للشباب ألا تيأس! وهناك مثل يقول»اطلبوا قضاء حوائجكم بعزة الأنفس؛ فإن الأرزاق تجري بمقادير» فيجب عليهم السير فى الطريق الصحيح والابتعاد عن التكالب فهناك أشياء سعيتُ إليها؛ حتى حفيت قدماي،ولم أبلغها، وأشياء أخرى حصلتُ عليها دون سعى مثل منحي جائزة الدولة التقديرية . ماذا تقرأ الآن؟ حفظت القرآن الكريم من الذاكرة فى سن مبكرة، والآن أعاود قراءته في تذوق عجيب لآيات الذكر الحكيم، وأنا دائم الدعاء لكل من علَّمنى، أو أسدى لى معروفاً؛ خاصةً أساتذتى وشيوخى وتلاميذى، وأصحاب الفضل عليَّ؛ حتى من المستشرقين. وما هى آخر مشروعاتك الإبداعية ؟ لدى عدد من الكتب الأول: كتاب عن «صورة صلاح الدين الأيوبي فى الأدب الأوروبى الوسيط» وقررتُ العمل فيه بعد حذفه من مناهج التعليم، بحجة أن الحديث عنه يشجع على الإرهاب؛ برغم أنهم فى أوروبا يتقاسمونه. والثاني: تحقيق كتاب «الأندلس ونظم الحرب والجهاد فى الإسلام» والبعض يتصور أن الإسلام دين قاسٍ، مع أن قوانين الجهاد فيه لم تصل إليها هيئة الأممالمتحدة حتى الآن. والكتاب الثالث: يتحدث عن «محمد ابن تومرت» الذى بنى إمبراطورية الموحدين؛ أكبر إمبراطورية فى المغرب - وبرغم أنه كان متعصباً- فقد ازدهرت فى عصره الفلسفة والفكر، وكانت الدولة الإسلامية تملك أكبر أسطول فى البحر الأبيض المتوسط، وبرغم ذلك فلم يتحدث عنه أحدٌ نتيجة الخلاف بين المغاربة! وهناك كتابٌ قمت بترجمته مؤخراً لمستشرقةٍ أمريكية عن دور دار العلوم في التعليم والثقافة والاجتماع خلال القرن العشرين وما قبله، وكتاب «الحب بين دانتي وابن حزم»، وهناك كتاب آخر هو «الحياة الجديدة» لدانتي لم يترجم إلى العربية من قبل! رحم الله د. مكى الذى رحل عنا بجسده فقط ... ليصعد بروحه إلى حياة جديدة.