الأسئلة الغائبة ذات العلاقة ب «الأزمة القطرية» كثيرة منها ما يتعلق بتهمة دعم قطر للإرهاب: ما هو هذا الإرهاب المقصود، أو بالتحديد أكثر ما هو تعريف «الإرهاب» الذي يستند إليه هذا الاتهام؟ وهل هناك عزم حقيقي لشن حرب جادة ضد داعمي الإرهاب ومموليه دون أن تقتصر هذه الحرب علي قطر وحدها؟ ومنها ما هو متعلق ب «حدود الأزمة ومستقبلها»، وهل هي معرَّضة للتصعيد أم أن مآلها الحتمي هو الاحتواء؟ الدافع للسؤال الأخير سؤال آخر لا يقل أهمية، إن لم يكن يزيد، هو: هل هذه الأزمة القطرية من الأزمات المسموح لها بالتصعيد أم أن هناك كوابح وضوابط سوف تفرض حتماً سرعة احتوائها؟ وما هي بالتحديد هذه الضوابط والكوابح؟ الإجابة علي هذين السؤالين الأخيرين تعيدنا إلي البداية مجددا،ً أي لماذا قررت قطر أن تتورط في هذه الأزمة التي كان سببها الأساسي ذلك البيان المنسوب إلي أمير قطر وانتقد فيه مقررات قمم الرياض التي شارك فيها الرئيس الأمريكي، وتضمن مواقف تتعارض مع هذه المقررات. فالواضح من مسار تطور الأزمة أن قطر، وربما تركيا أيضاً، باعتبارهما الشريكين الكبيرين في دعم الإرهاب خاصة في سوريا وليبيا والتحالف مع جماعة الإخوان، لم تقبلا أن تصبح السعودية هي المرتكز الجديد للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، باستثناء المرتكز الإسرائيلي بالطبع، باعتبار أن إسرائيل هي المصلحة الأمريكية العليا في المنطقة. قطر قدمت الكثير للأمريكيين منذ عام 1991 وحتي الآن، مروراً بعام 2003 كي تنال شرف توصيف «الحليف الخليجي الأهم»، عندما أعطت للأمريكيين حق بناء أهم قواعدهم العسكرية في الشرق الأوسط علي أراضيها، وبعد أن اختبرت جيداً في الوفاء بالتعهدات الواردة في بناء هذه القواعد وبالتحديد استخدامها لخدمة مصالح أمريكية عليا قطروتركيا لم تقبلا بأهلية السعودية لقيادة مشروع «خليجي عربي- إسلامي» علي نحو ما جاء في مقررات قمم الرياض. تركيا تعتبر نفسها القوة السُنية الكبري في المنطقة القادرة علي منافسة إيران باعتبارها القوة الشيعية الكبري في المنطقة أيضاً، وأن قواعد اللعبة يجب أن تكون علي هذا الأساس. استقطاب إقليمي سُني- شيعي أطرافه الأساسية تركياوإيران، والباقي أطراف بمن فيهم السعودية. عندما أعلنت قطر تمردها علي مقررات قمم الرياض فإنها كانت تراهن علي الموقف الأمريكي ومكانة قواعدها العسكرية بالنسبة للولايات المتحدة، وأن الولاياتالمتحدة، في أي أزمة بين قطر وجوارها الخليجي، لن تقبل بوقوع أضرار جسيمة بقطر وفق الالتزامات الأمريكية المدونة في اتفاقيات تأسيس القواعد العسكرية الأمريكية علي الأراضي القطرية سواء كانت قاعدة «العُديد» شديدة الأهمية باعتبار مكان وجود القيادة العسكرية المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط، أو قاعدة السيلية التي هي أهم مخازن سلاح الطيران الأمريكي في المنطقة. قطر تدرك أن القواعد العسكرية الأمريكية علي أراضيها تحقق لها ثلاثة حقوق. أول هذه الحقوق هو التعهد الأمريكي بالدفاع عن قطر، وبتحديد أكثر، عن الأسرة الحاكمة في قطر والنظام القطري، ضد أي تهديد داخلي أو خارجي، وهذا ما حرص أمير قطر علي أن يؤكده في بيانه المشار إليه، ثاني هذه الحقوق، أن تكتسب قطر مكانة عليا وسط الدول المجاورة وأن تتعامل ندياً مع المملكة العربية السعودية علي وجه الخصوص، وثالثها أن تكون قطر شريكاً للولايات المتحدة في لعب أدوار إقليمية كان من أبرزها دعم المنظمات الإرهابية منذ قررت الولاياتالمتحدة أن تلعب بهذه الورقة ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان وامتداداً إلي الحرب علي «القوي الإقليمية الكبري المارقة: العراقوإيران»، وأخيرا تجيير أحداث الربيع العربي لصالح «التحالف الأمريكي- الإخواني» للسيطرة علي العديد من الدول العربية أبرزها بالطبع سوريا وليبيا واليمن، ولم تكن مصر بعيدة عن هذا المخطط وربما تكون أهم محطاته. قطر تعي وتدرك ذلك تماماً، لكنها لم تقرأ جيداً جديد السياسة الأمريكية بعد مجئ دونالد ترامب، أو ربما لم تصدق تصريحاته، وتصورت أن أي حديث عن الحرب علي الإرهاب من جانب ترامب وإدارته ليس إلا حديثاً الهدف منه هو مجرد ابتزاز الدول العربية ونهب أموالها، وأن التستر الأمريكي علي الإرهاب سيبقي هو السياسة الأصيلة، ومن هنا جاء تجرؤها في الخروج علي مقررات قمم الرياض. لكن يبقي السؤال إلي أي حد يمكن أن تكون قطر قد أخطأت الحسابات مع إدارة ترامب؟ وهل يمكن لإدارة ترامب أن تضحي بمصالح إستراتيجية مع قطر وتسمح لمشروع «معاقبة قطر» أن يستمر ويتصاعد ويأخذ مداه؟ وبوضوح أكثر هل ستقبل واشنطن أن تدفع قطر أثمان جرائمها في دعم وتمويل الإرهاب أم ستتدخل في اللحظة المناسبة لاحتواء الأزمة؟ الموقف الأمريكي يبدو شديد الالتباس بهذا الخصوص وبالذات بين تصريحات ترامب الغامضة وتصريحات وزير خارجيته ريكس تيلرسون المتعارضة. فإذا كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد صرح في مؤتمر صحفي مع الرئيس الروماني بأن «دولة قطر للأسف قامت تاريخياً بتمويل الإرهاب وعلي مستوي عال جداً» وأضاف «لقد قررت مع وزير الخارجية ريكس تيلرسون وكبار جنرالاتنا وطواقمنا العسكرية أن الوقت قد حان لدعوة قطر إلي التوقف عن تمويل الإرهاب» فإن هذه التصريحات تزامنت مع تحذيرات صدرت عن وزارة الدفاع الأمريكية وعن وزير الخارجية من الآثار العسكرية والتجارية والإنسانية للحصار المفروض علي قطر، ودعوة وزير الخارجية للسعودية ومصر والإمارات والبحرين إلي تخفيف الحصار علي الدوحة، وقبل هذا كله كان الرئيس الأمريكي نفسه قد شدد في اتصال هاتفي مع العاهل السعودي علي ضرورة الحفاظ علي وحدة منطقة الخليج ودور مجلس التعاون الخليجي في مكافحة الإرهاب، وقال «من المهم أن يكون الخليج متحداً من أجل السلام والأمن في المنطقة».واشنطن لن تقبل بانهيار مجلس التعاون، ولن تقبل بحدوث اختراق إيراني لمنظومة الأمن الخليجي، لكن ما هو أهم هو أنها ليست جادة في حرب حقيقية علي الإرهاب أو فتح ملفاته، وهي تعرف أن لدي قطر ملفات تدين آخرين تحرص واشنطن علي أن تبقي ملفات مغلقة، ولذلك ستكون أشد حرصاً علي احتواء الأزمة، وهذا هو أهم رهانات قطر. لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس;