لا أكاد أصدق عيني وأنا أري هذا العدد الهائل من المسلسلات الرمضانية والدرامية علي القنوات الفضائية والتي قيل إنها تجاوزت خمسين مسلسلا وعملا دراميا، وإن تكلفتها الفعلية والإنتاجية وصلت إلي أعتاب المليارين من الجنيهات، بما فيها أجور الفنانين والعاملين والمخرجين والإنتاج، وأجور المحطات الفضائية نفسها وللأسف رغم هذا الإنتاج الضخم وهذا الإنفاق المبالغ فيه وهذه التقنيات العالية في فنون الإخراج والسيناريو والكتابة والدراما بصفة عامة فإن صدمتنا الكبري هذا العام في هذا الفلك الذي ندور فيه ولا نخرج منه منذ سنوات طويلة، فمازلنا أمام أعمال فنية تتخذ العنف والعري والصراعات الوهمية محورا لها ومن توظيف العبارات المبتذلة والألفاظ الجارحة والتلميحات السمجة غطاء لجذب المشاهدين والمتابعين لها، وبالإضافة إلي ذلك ما شاهدناه من أعمال تتخذ من الدجل والجن والعفاريت والخزعبلات أدوات لحبكتها الدرامية وسردها الفني في سياق أقل ما يمكن أن نصفه بأنه سياق يستخف بمتابعيها وبجمهور الدراما بصفة عامة، فهل يعقل ونحن في هذا العصر الجديد ان نتعايش ونتعامل مع هذه النوعية من الدراما العقيمة التي تستهين بفكر المشاهد وعقليته إلي هذا الحد الغريب. أقول هذا وأنا من الجيل الذي عايش الأعمال الدرامية الخالدة التي كنا ننتظرها من رمضان إلي رمضان لمبدعي الدراما التليفزيونية أمثال أسامة أنور عكاشة ووحيد حامد ومحمد جلال عبدالقوي ومحفوظ عبدالرحمن ولعمالقة الإخراج نور الدمرداش ومحمد فاضل وإنعام محمد علي وغيرهم من الأسماء التي تركت بصماتها علي حركة الدراما العربية كلها وليس في مصر وحدها وأثرت عن حق في وجدان الأجيال وأسهمت في تشكيله. وغير هذا كله كنا ننتظر في هذا الشهر الفضيل الأعمال الدينية الكبري والمأخوذة من كتابات المبدعين الكبار مثل (محمد رسول الله) لعبدالحميد جودة السحار بأجزائها المختلفة و(علي هامش السيرة) و(الشيخان) لطه حسين و(القضاء في الإسلام)و(عمر بن عبدالعزيز) من السير القديمة وهذه الأعمال الخالدة كان ينسج حواراتها وأحداثها العمالقة الكبار أمثال عبدالوارث عسر وسعد أردش ومحمد السبع ويخرجها شيوخ الإخراج التليفزيوني وفي مقدمتهم نور الدمرداش وينفق عليها جهاز الإنتاج بالتليفزيون المصري الذي انسحب تماما من الساحة الدرامية ولم تعد له بصمة تذكر، فاختفت علي أثره هذه النوعية من الأعمال الدرامية الكبري من خريطة التليفزيون بأسرها وهي الأعمال التي كانت تحمل عن حق رسالة تفوق معاني الدراما التليفزيونية المباشرة أو مضمون الحكي للسير والأحداث التاريخية ألا وهي رسالة التجديد الحقيقي للوعي الديني ولحقيقة الرسالة المحمدية وهو ما نحتاجه الآن بشدة في ظلال ما نعايشه من الإرهارب الحقيقي والمنسوب للأسف للإسلام وللإسلاميين المتشددين. وحتي الكوميديا الهادفة التي عايشناها في رمضان للرموز الكبار أمثال فؤاد المهندس وشويكار وأمين الهنيدي ومحمد عوض ومحمد صبحي وغيرهم اختفت ملامحها تماما ولم يعد لها صدي يذكر وصارت الكوميديا الآن محصورة في برامج التفاهة والمقالب السمجة والألفاظ الخادشة لمنظومة الحياء!. إن الحل الوحيد هو عودة جهاز الإنتاج للتليفزيون المصري إلي أداء دوره في ساحة المنافسة وإن تدعمه الدولة بميزانية خاصة لخوض غمار المنافسة من جديد، وليستقدم كبار كتابنا ومخرجينا مرة ثانية وينتقي الأعمال الدرامية المتناغمة مع قيم الذوق الإنساني، وقيم المجتمع التي بددتها أعمال العنف والدجل والعري، والأعمال الدينية والتاريخية الداعمة لفكر الاعتدال في منهجنا الإسلامي القويم والحكيم والمبددة لفكر التطرف والتجاوز والتشدد والإرهاب، المهم ان تتحرك الدولة في هذا السياق قبل أن يصل التجاوز الدرامي لمراحل لا يجدي معها البكاء علي اللبن المسكوب. د.بهاء حسب الله كلية الآداب جامعة حلوان