لم يسع شعب إلي تجسيد القيم والفضائل, التي تتحدي الزمن وغوائل الفناء وتسعي للخلود, مثلما فعل المصريون منذ فجر التاريخ وهاهو الهرم وأبو الهول رمزان مصريان خالدان, يلخصان ويقطران تجسيد قيم النظام والعمل والتفاني وتحدي الزمن والفناء. ومرت العصور والقرون ومازالت النصب التذكارية المصرية تشع النور والحضارة في مصر وفي ميادين كثيرة من العالم تماثيل ومسلات وواجهات معابد ونماذج رائعة للأهرامات. وفي ثورة الشعب سنة1919, لعب الفن المصري دورا طليعيا ساهم يدا بيد ومن قلب الحركة الوطنية في تحقيق أهداف نضالات الشعب المصري سواء كان هذا الفن من الفنون القولية والموسيقية كما جسدها الرائع سيد درويش ومازالت وطنياته تلهمنا حتي اليوم, أو سواء تجسد فنونا من النحت والتماثيل جسدها المثال الأشهر محمود مختار وتجلت في روائعه, ومنها تمثال نهضة مصر كان الكهول مثلي رغم خبرتهم ووعيهم- قد فقدوا الأمل في تغيير ذلك النظام المستبد ومع هذا فقد كان لشبابنا قول آخر فخرجوا سلميين غير مسلحين إلا بحناجر قوية تهتف عيش..حرية..كرامة إنسانية وتهتف الشعب يريد إسقاط النظام. أما وقد نجحت الثورة في مرحلة مهمة من مراحلها, ومنحتنا كل هذا القدر من الحرية والثقة, وأعادت لنا وطنا غاليا كنا قد فقدناه, وشهدت مصر أول رئيس منتخب في تاريخها, الدكتور محمد مرسي, الذي أعلن أنه لم يأت إلا بفضل تضحيات شهداء الثورة ومصابيها, وأن حقوقهم والقصاص لهم أهم أولوياته, ومن وجهة نظري أظن أن تخليد ذكري هؤلاء الشهداء يأتي في مقدمة حقوقهم والوفاء لهم ببعض ماقدموا للوطن0 ومن هنا فإنني أدعو كل المعنيين والمهتمين والثوار إلي التفكير الجدي في إقامة النصب التذكاري لشهداء الثورة بحيث يقام في قلب صينية ميدان التحرير علي أن يكون عملاقا شاهقا يرتفع إلي عنان السماء يليق بأمجاد تحتمس الثالث ورمسيس الثاني والكرنك ومن مادة شديدة الصلابة كالجرانيت أو البرونز, ويتم عبر مسابقة دولية يشترك فيها مبدعو العالم وفنانوه وطبعا أنا أعلم أن مثل هذا الصرح قد يتكلف عدة ملايين أو عشرات الملايين من الجنيهات, ولكني في نفس الوقت أوقن أننا لسنا فقراء, كما أوقن أن مؤسسات العالم كله كالأمم المتحدة والبنك الدولي واليونسكو والإتحاد الأوروبي, لن تبخل علي تجسيد حدث إنساني علي هذا القدر من التفرد والروعة والجمال. قد يقول قائل ولكن الثورة لم تكتمل بعد وأن أعداءها كثيرون, بل أن منهم من يسعي لتشويهها وشيطنتها وإهالة التراب علي صناعها وشهدائها, ولكني أظن أن هذا أدعي لاعتبار أن إنجاز هذا النصب هو جزء من النضال في سبيل إنجاز أهداف الثورة وأنه سيظل شاهدا علي فساد عهد مبارك وزبانيته وحزبه, كما سيظل حارسا علي الثورة, وأمينا علي حماية القيم النبيلة التي تصونها وتحرسها أرواح شهدائنا, وشاخصا يلقي بزفرات الاحتقار علي أعدائها وأعداء الوطن0 وأنا أتصور أن صينية ميدان التحرير ستكون هي المكان الأنسب لهذا النصب, فهي صانعة للحدث وهي قلبه, ولقد أصبح ميدان التحرير نفسه مزارا وكعبة لكل أحرار العالم, وأنا أعلم أن الصينية ملتقي للعديد من الطرق التي تأتي من شمال وجنوب وشرق وغرب القاهرة, وقد يعطل مشروع كهذا انسياب المرور هذا صحيح ولكن من الممكن تفادي تلك المعضلة بالنفوذ إليها عبر منافذ محطة مترو الأنفاق التي تقبع تحتها, وعندها يمكن تحويل الطرق إلي الصينية نفسها إلي معارض ومتاحف دائمة لهذا الحدث الخالد0 أما عن مفردات النصب وأنا أظنه سيكون نصبا هائلا ومركبا, فسيجدها الفنانون بسهولة في طبقات حضارتنا المصرية من العصور الحجرية للعصر العتيق ودول الفراعنة والبطالمة والحقبة اليونانية الرومانية والقبطية والعصر الإسلامي والحديث ووجوه وأسماء الشهداء وابتساماتهم المشرقة, وأغانيهم وهتافاتهم, وممارسات القتلة, بنادقهم وخرطوشهم وبغالهم وجمالهم وسنجهم ومطاويهم وخستهم وانحطاطهم0أنا اعلم أن الحلم والطموح بعيد, ولكنه بالقطع ليس أبعد من النجوم التي قطفناها وما زلنا رغم أعداء الثورة الباهرة0