التكفير الدينى والمذهبى أصبح أحد أبرز ملامح بنية العقل المغلق وآلياته فى فهم النصوص الدينية المقدسة، والسنوية لدى بعض الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية منذ عديد العقود، ومن ثم شكل أحد أبرز مكونات بناء الأيديولوجية، وتمدد لكى يغدو جزءًا من تفكير بعض منظرى وقادة هذه الجماعات، على نحو أسهم فى تحفيز وإحياء بعض الصور السلبية حول العقيدة والإيمان والشريعة والقيم الإسلامية الفضلى، فى عديد وسائل الإعلام، والقنوات الفضائية الغربية والعالمية، وكرس هذه الصور النمطية بعض فتاوى وممارسات داعش وبوكو حرام والسلفيات الجهادية ونظائرهم وأشباههم. شاع العقل التكفيرى وإنتاجه من السلع الإفتائية، التى تسوغ وصف بعض الأشخاص، أو الجماعات، أو المذاهب، أو الأديان الأخرى بالكفر والخروج عن الملة، بات جزءًا من صراع الخطابات والتأويلات والتفسيرات والفتاوى فى الأسواق الدينية الوطنية والإقليمية والعولمية، وباتت أحد محركات ومحفزات العنف والقتل وإسالة الدماء، أو الاغتيال الرمزى للأشخاص، والأفكار والتأويلات الأخرى داخل الدين الإسلامى التى تتسم بالاعتدال، والانفتاح، والنزعة الغيرية، وإيمانها بالإنسان والمساواة والتعايش والعدالة والتسامح والأخوة الإنسانية. النزعة التكفيرية تشير إلى رغبة عمياء ووحشية فى تنميط التفكير، والسعى إلى إنتاج عقل ممتثل، ومن ثم إلغاء الفردية والغيرية التى يتكامل معها وبها الإنسان، وينفتح على تعددها، وتعدديته الداخلية. سياسة التكفير تأويلية ووضعية بامتياز، ولها أهداف تسعى إلى تحقيقها وعلى رأسها ما يلي: 1- تبنى المفهوم التكفيرى يؤدى إلى بناء مكانة وهيبة وسلطة لدى بعض الغلاة من الراديكاليين إزاء بعض رجال الدين الرسميين فى الأزهر وسواه من المؤسسات الدينية فى الإقليم والعالم. 2- استخدمت بعض الجماعات - مثل المسلمين والقطبيين وداعش... إلخ - سياسة التكفير أداة لجحد ونزع شرعية الدولة الوطنية الحديثة وقادتها، وسلطاتها، وأجهزتها. من ناحية أخرى نفى شرعية التعدد الدينى والمذهبي، ومفاهيم المساواة والمواطنة فى مجتمع متعدد الأديان والمذاهب، بهدف كسر الموحدات القومية، وتبرير الاعتداءات ضد الآخر المذهبى داخل الإسلام، والآخر الديني، على نحو ما تم من قتل بعض الشيعة، أو الهجوم على دور العبادة المسيحية وعلى عديد من الأقباط، فى أحداث «طائفية» خطيرة. من ناحية أخرى إشاعة الأفكار والفتاوى التكفيرية من بعض الغلاة إزاء المسيحيين يرمى إلى بناء الأسوار والحواجز الرمزية والنفسية بين المكونات الدينية المتعددة، من خلال أدوات أخرى منها خطاب الكراهية إزاءهم، كجزء من عمليات الصراع السياسي/ الدينى مع النخبة السياسية الحاكمة، وأجهزة الدولة الأمنية، وشل قدراتها على التدخل فى المنازعات الطائفية لاسيما فى المناطق الريفية، وتطبيقها للقانون على المخالفين لأحكامه فى المشاجرات والنزاعات الدينية. رمت سياسة التكفير وخطاب الكراهية الدينى المتطرف إلى إحداث تغيير فى الإدراك الجمعى للمسلمين إزاء إخوتهم المواطنين الأقباط، وإلى تغيير فى أنماط التدين الشعبى المصرى الاعتدالي، وإزاء القانون الحديث، وهو ما أدى إلى إنتاج ثمار مُرةً ومعطوبة فى العلاقات الدينية والاجتماعية بين بعض المسلمين والأقباط فى بعض محافظات صعيد مصر، وفى بقية المحافظات والأحياء المريفة فى القاهرة والإسكندرية. من الملاحظ أن سياسة التكفير التأويلية الوضعية ومحمولاتها السياسية تشكل تهديدًا خطيرًا لمبدأ المساواة، والمواطنة الكاملة غير المنقوصة لجميع المواطنين، والأخطر لمبدأ الشرعية الدستورية، ودولة القانون الحديث وتحرض على نقض هذه الشرعية وهدمها لصالح مفاهيم تأويلية ترمى إلى إقامة قوانين دينية موازية، ومن ثم الحضُ على عدم احترام التشريعات التى تصدرها الدولة بدعوى أنها إنتاج للدولة ونخبتها الكافرة. هذا النمط من الفكر الدينى المغلق بدأ فى التغلغل منذ عقود فى وسط بعض الموظفين كجزء من تمدد نمط التدين الريفى المصرى داخل بعض أجهزة الدولة، وفى وسط بعض طلاب العلوم الدينية كنتاج لانتشار بعض الفقه السلفى التأويلي، وسياسة التكفير الدينى والمذهبي. من هنا تشكل سياسة التكفير أحد مصادر تهديد الدولة الحديثة وشرعيتها، والأخطر على الحيوية الاجتماعية والفكرية للتعدد الدينى والمذهبى المصري، وتشكل انقلابًا على فقه وفكر كبار الفقهاء الأزهريين المجددين الذين أقروا بمبدأ الحرية الدينية انطلاقًا من تفسير النصوص القرآنية والسنة النبوية، وعلى رأسهم الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت، وعبد المتعال الصعيدى وآخرين. من ثم تُعد سياسة التكفير لبعض الغلاة خطرًا على الأزهر المؤسسة الدينية المركزية فى عالم الإسلام السنى الأكثرى، وعلى مكانتها، ودورها، وصورتها وهيبتها، وتضفى صورًا سلبية نمطية على الإسلام الديانة العظمى السمحاء فى أصولها وفروعها، ومن ثم لابد من التصدى الفقهى والإفتائى لهذه السياسة التكفيرية ودعاتها ومفتييها وجماعاتها التى تمارس التكفير والحض على الكراهية وسفك الدماء، والاغتيال الرمزى والمعنوى للمغايرين دينيًا، أو فكريًا أو مذهبيًا. لمزيد من مقالات نبيل عبد الفتاح