عندما ينظر المراقب لوسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة، يمكنه أن يتلمس بجلاء إلى أى مدى تغير الخطاب الإعلامى نحو ما كان يعتقد أنه وجهة تركيا النهائية، أى الغرب بشقيه الأوروبى والأمريكي، إذ بات ينظر نظرة شك وريبة لكل ما هو غربي. فخلال عقد من الزمان بدأ مع مستهل الألفية الثالثة، كانت اللهجة الأناضولية المناوئة والرافضة والمعادية للقارة العجوز عامة والقوة العظمى الساكنة بالضفة المقابلة للأطلسي، تزداد بالتوازى مع ردة الأناضول ذاته عن مكتسباته الجديدة مقابل النزوع التدريجى إلى تراث السلف بمن صاروا يلقبون من قبل قادة العدالة والتنمية الحاكم ب«العثمانيين العظام الأفذاذ». وطبيعى لقى هذا النهج، ولازال، مساندة غير محدودة من الدولة فى ظل حكامها الحاليين بتوجهاتهم القومية الإسلامية، وذلك من خلال أطر ممنهجة ومتعمدة . غير أن المنعطف الفارق والحاسم فى هذا المنحى والذى سيصبح لاحقا غير مسبوق جاء عقب المحاولة الإنقلابية الفاشلة منتصف يوليو الماضى، واعتقاد وريثة الإمبراطورية العثمانية الجازم، أن الأوروبيين والأمريكيين، لم يسارعوا بالقدر الكافى إلى إدانة تحرك بعض العسكريين ضد الحكومة «المنتخبة إنتخابا حرا»، بل ظهروا وكأنهم تمنوا لو نجح الانقلاب، وتم إقصاء الرئيس رجب طيب اردوغان عن السلطة، وهو ما حدا بالآلة الإعلامية الموالية للأخير، أن ترد ساخطة وبزخم هائل لتلعن هؤلاء الذين «يضعون أنفسهم فى أعلى قائمة الدول المدافعة عن حقوق الإنسان، فى حين تكشف الوقائع حقيقة نواياهم بكل وضوح ووقاحة» . ورغم أن بلدانا أوروبية ومعهم واشنطن، عادوا مستنكرين ماحدث معلنين دعمهم ووقوفهم إلى جانب إختيارات الشعب التركي، إلا أن الفجوة راحت تزداد وتتعمق عبر أزمات متتالية، ولم يكن هذا عصيا على التفسير من وجهة نظر صناع القرار فى العاصمة أنقرة، فمواقف «الذين كان يفترض أنهم أصدقاء»، والتى اتخذت على إستحياء لم تكن صادقة أبدا، برهن عليها «تعاطفهم وإحتضانهم لمن شاركوا فى قصف المؤسسات التشريعية والأمنية والعسكرية بالمقاتلات ليلة الجمعة المشئومة قبل عشرة شهور». وعلى هذا المنوال استمرت أجواء التحريض والتحفز صوب «الغربيين الأشرار» وها هم يلعبون ب «الورقة الكردية» معضلة البلاد الأبدية، بتصديرها إلى قلب الأزمة السورية، فى مخطط لن ينتهى بالقضاء على الداعشيين كما يدعى التحالف الدولى الذى تقوده الولاياتالمتحدة بل تكريس جغرافيا جديدة ، حتما ستضرب وحدة الاراضى التركية فى مقتل. وعبثا حاول الساسة الأتراك عبر صرخاتهم وتحذيراتهم المتتالية، بخطورة دعم قوات سوريا الديمقراطية بحجة محاربة داعش ، كون ان غالبية من ينضمون تحت لواءها هم من منظمة حزب العمال الكردستانى الانفصالية التى يصنفها الغرب أنفسهم بالكيان الإرهابي، ومن ثم ووفقا لما ذهب اليه بن على يلدريم رئيس الحكومة «فلا يصح الاستعانة بمنظمة إرهابية لمحاربة أخرى فهذا تصرف لا يليق بالدول الجادة» ولكن دون جدوى وكأنهم يخاطبون العدم ، وبدلا من ذلك وفى تطور نوعى وقبل زيارة أردوغان المعلنة للبيت الابيض وافق دونالد ترامب على تزويد الأكراد بالسلاح الثقيل والمعدات العسكرية ضاربا بعرض الحائط مخاوف الاتراك. هنا بدا التغيير يأخذ شكلا أكثر حدة ، متزامنا مع تصريحات رسمية اتهمت صراحة من كانوا «حلفاء» بمعاداة تركيا ومعاقباتها مستكثرين عليها التقدم للأمام، وخير دليل ذلك، الناتو نفسه الذى يسعى إلى تجريف حدود أحد الدول الأعضاء، عن طريق الجيش الأمريكى فى سوريا، وبالتعاون بين عناصر منظمة جولين الإرهابية (نسبة إلى الداعية الدينى فتح الله جولين المقيم فى بنسلفانيا ويتلكأ البيت الأبيض فى تسلميه لأنقرة)، زاد على ذلك قيام «أمريكا وحلف الناتو بتسليم خرائط الشمال السورى لمنظمة حزب العمال الكدرستانى وامتدادها وحدات حماية الشعب الكردية السورية وكل هذا من أجل شرق أوسط جديد، أما عن تصريحاتهم بأنهم «سيحمون دولة تركيا وحدودها» فكلها مجرد ثرثرة، وفى نبرات وعيد وتهديد أنبرى الكتاب الموالون للقصر الرئاسى فى العاصمة أنقرة قائلين إن تركيا ستدافع عن حدودها وستضرب بيد من حديد من يهدد أمنها القومى وسترون ماذا نحن فاعلون ! ورغم أن أردوغان هو من اطلق شرارة الهجوم على «الفرنجة» الذين يحاربون الإسلام والمسلمين ناعتا إياهم بالصليبيين، وبطبيعة الحال لم ينج الحليف الامريكى من توصيفاته تلك القاسية فعلى أراضية يأوى الارهابى جولين مدبر الانقلاب الفاشل ، إلا أنه وهذا هو المدهش، عاد للواقع محاولا تهدئة ثائرة الغاضبين الذين طالبوه بإلغاء زيارته كأقل شىء ، بل وغلق قاعدة أنجيرليك الجوية ردا على السياسات الأمريكية المشينة تجاه بلادهم . ولأن تنفيذ هذه المطالب «الانفعالية» صعب بل ومستحيل خاصة مع التطورات الإقليمية التى لم تعد فى صالحه، لم يكن أمامه سوى الإعراب عن أمله فى أن يتمكن من إثناء ترامب عن مقصده عندما يقابله، ولمغازلته لعل عسى يستجيب، قال إن «أنقرة متحمسة للمشاركة فى معركة استعادة الرقة، ولكن بشرط عدم انخراط المقاتلين الأكراد السوريين فيها، وبلغة حماسية «توقع ان تدغدغ مشاعر صقور البنتاجون» أضاف أنه فى حال تعاون تركياوالولاياتالمتحدة معا، فستتمكن الدولتان من تحويل الرقة إلى «مقبرة» للمتطرفين! هكذا بكل بساطة، ثم داعيا واشنطن بأن تحول دعمها إلى الجيش السورى الحر المدعوم من بلاده ،وتناسى أن الأخير أخفق فى احراز أى نجاح على الدواعش، فى حين كان من يصفهم بالارهابيين (وحدات حماية الشعب الكردية السورية) يحققون إنتصارات على تنظيم الدولة، إستحقوا على أثرها «وبجدارة» الحصول على العتاد العسكرى الذى سيجعلهم «أكثر تأثيرا وقوة وحسما فى محاربة الإرهاب»، وتلك هى قناعة الناتو والبيت الابيض الذى سيحل الرئيس التركى ضيفا عليه فعلام سيتباحث السيد اردوغان فى زيارته الخاسرة.