ربما كان فوز إيمانويل ماكرون فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة فى فرنسا أهم حدث سياسى شهده هذا العام، ومن المؤكد أن آثاره ستنعكس بشكل كبير على المزاج السياسى فى أوروبا، وربما على الخريطة الدولية بأكملها، وقد كنت أنوى مواصلة بحث موضوع اليونسكو وما علينا أن نفعله فى الأشهر القليلة الباقية حتى اختيار المدير العام الجديد فى شهر نوفمبر القادم (كما وعدت فى مقالى السابق)، لكن تلك النتيجة المهمة التى أسفرت عنها الانتخابات الفرنسية فرضت نفسها على كل ما عداها. وإذا كنت أقول ان فوز ماكرون هو أهم حدث سياسى على مستوى العالم هذا العام، فذلك لا يعنى أننى أغفل أهمية فوز نقيض ماكرون فى الولاياتالمتحدة وهو دونالد ترامب ممثل اليمين المتطرف الأمريكي، فالحقيقة هى أن فوز ترامب هو الذى يعطى لفوز ماكرون أهميته، فَلَو أن ماكرون قد فاز فى الانتخابات الفرنسية السابقة قبل خمس سنوات من فوز ترامب لما كانت له هذه الأهمية الكبرى التى له اليوم، ذلك أن فوز ماكرون هذه المرة جاء بمثابة رد حاسم على المخاوف التى ولدها فوز ترامب فى الولاياتالمتحدة من أن يجتاح اليمين المتعصب الحياة السياسية فى الغرب بأكمله، خاصة بعد تصاعد شعبية زعيمة الجبهة الوطنية مارين لو بن، ولقد كانت هناك بالفعل توقعات بفوز لو بن على ماكرون وهو ما كان سيؤثر بدوره على الانتخابات فى دولة أوروبية أخرى مجاورة لفرنسا هى ألمانيا التى تستعد الآن لانتخابات البوندستاج فى نهاية شهر سبتمبر القادم والتى ستقوم الأغلبية الفائزة فيها بتشكيل الحكومة الجديدة. لقد تصاعدت فى الغرب قوة اليمين المتطرف ذى الاتجاهات العنصرية بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة نتيجة لعدة أسباب لا شك أنه كان من بينها زيادة حدة التطرّف الإسلامى وارتفاع عدد العمليات الإرهابية التى يلصق بها مرتكبوها اسم الإسلام، وهو ما كان من شأنه إحياء النزعة الاستعلائية العنصرية الكامنة فى الغرب منذ عصور الحروب الصليبية والتى عادت فعبرت عن نفسها فى الحرب العالمية الثانية فى ألمانيا، بعد أن كانت مقومات ومظاهر الحضارة الغربية قد نجحت خلال عقود طويلة فى تهذيب تلك النزعة وكبح جماحها، بل والشعور بالإثم تجاهها. لقد انتصر ماكرون فى مواجهة تلك النزعة العنصرية البغيضة التى عادت لتطل برأسها بلا استحياء فى معظم الدول الغربية، إنها النزعة التى انتصرت فى حالة ترامب وانهزمت فى حالة لو بن، أو فلنقل انتصرت فى حالة الولاياتالمتحدة وانهزمت فى حالة فرنسا، فالذى انتصر فى الانتخابات الفرنسية لم يكن ذلك المرشح الأعزل الذى لا ينتمى الى أى من الأحزاب القائمة، وانما انتصرت القيم والمثل التى قامت عليها الجمهورية الخامسة التى أسسها ديجول عام 1958، والتى تستمد دعائمها من المباديء السامية للحضارة الانسانية على مر التاريخ.لكن للأسف فإن تلك ليست نهاية الرواية، فبعد حوالى شهر واحد فقط ستجرى الانتخابات التشريعية الفرنسية التى ستخوضها جميع الأحزاب السياسية بعد أن انهزمت فى انتخابات الرئاسة، وفى الوقت الذى ستعود لوبن بحزبها لساحة المنافسة فإن ماكرون سيخوضها بذلك الحزب الوليد الذى أسماه االجمهورية الى الأمام استمرارا للحركة السياسية التى أسسها باسم «إلى الأمام» ليخوض بها انتخابات الرئاسة، كما يخوضها وهو يعرف أن البلاد منقسمة على نفسها وأن نسبة تزيد على ربع الناخبين أبطلت أصواتها لأنها لم تجد المرشح الذى يمثلها، بينما حقق اليمين المتطرف تحت زعامة لو بن نسبة غير مسبوقة حيث حصل لأول مرة على أكثر من 33%، وهذه العوامل تجعل من المستبعد أن يحصل الرئيس الفرنسى فى الانتخابات التشريعية على الأغلبية البرلمانية التى تمكنه من تشكيل الحكومة، وهذا يعنى أن ماكرون سيضطر للتعايش مع حكومة لا تتبع اتجاهه السياسي، وهو ما يعرف فى فرنسا باسم co-habitation أى السكن المشترك، وهو الوضع الذى كان سائدا وقت كان جاك شيراك المنتمى ليمين الوسط رئيسا وكان رئيس الوزراء هو الاشتراكى ليونيل جوسبان، فهل يتكرر ذلك هذا العام وتأتى حكومة الرئيس الليبرالى الوسطى من اليمين المتطرف؟ الحقيقة أن الخريطة السياسية فى فرنسا الآن تشير الى عدم وجود حزب واحد قوى يستطيع أن يحصل على الأغلبية المطلوبة فى البرلمان كى يقوم وحده بتشكيل الحكومة، كما أن حركة «الى الأمام» التى كانت الظهير السياسى لماكرون فى الانتخابات الرئاسية رغم تحولها الآن الى حزب فهى ليست بالقوة التى تسمح لها بالحصول على الأغلبية البرلمانية المطلوبة، بالإضافة الى أن تلك الحركة لم تكن وحدها المسئولة عن إنجاح ماكرون بهذه النسبة الكبيرة التى حازها فى انتخابات الرئاسة، فقد أيده أكثر من اتجاه سياسى خارج هذه الحركة، كما حاز على تأييد من منحوه أصواتهم حتى يمنعوا لو بن من الوصول الى رئاسة فرنسا، وأغلب الظن أن الأغلبية البرلمانية المطلوبة لتشكيل الحكومة لن تتحقق هذه المرة إلا بقيام تحالف بين أكثر من حزب، فهل سيكون هذا التحالف هو التحالف الذى سيضطر حزب ماكرون لتشكيله أم أنه سيكون تحالفا معارضا؟ ثم هل سيكون حزب لو بن من بين أحزاب ذلك التحالف؟ أسرع فأقول أننى لا أتوقع ذلك لأن الأحزاب التى تحالف ضد حزب الجبهة الوطنية فى الانتخابات الرئاسية ستتحالف ضده أيضا فى الانتخابات التشريعية ولن تقبل بوجود لو بن ضمن التحالف الذى سيشكل الحكومة. وفى انتظار تلك الانتخابات فإن ماكرون سيشكل حكومته المؤقتة التى ينتظر أن يعلن عن اسم رئيسها خلال الساعات القليلة القادمة، فلننتظر تلك التطورات الى أن تقع حتى نستطيع أن نتبين إن كان ماكرون قد نجح بالفعل فى الانتخابات الرئاسية، فذلك النجاح لن يتحقق إلا إذا جاءت الانتخابات البرلمانية التى ستجرى فى 11 و12 يونيو القادم بحكومة خاضعة للرئيس يستطيع أن يحقق بها برنامجه الانتخابي، فبدون ذلك سينعكس الانقسام القائم الآن داخل المجتمع الفرنسى على تشكيل الحكومة، وستتحول تجربة السكن المشترك الفرنسية هذه المرة إلى مواجهة صريحة بين الرئيس وحكومته، وهو ما قد يصيب الوضع السياسى فى فرنسا بالشلل التام. لمزيد من مقالات محمد سلماوى