فى هذه المقالات التى أكتبها حول تجديد الخطاب الدينى تعرضت فى مقالة الأربعاء الأسبق لموقف الأزهر من هذه القضية وللصراع الذى دار فى ساحته بين دعاة التجديد وبين أنصار التقليد الذين قاوموا هذه الدعوة وظلوا متمسكين بخطابهم التقليدى الموروث. ثم تساءلت عما وصل إليه هذا الصراع الذى احتدم بين الفريقين، لكن المساحة لم تتسع لتقديم الجواب الذى أقدمه اليوم، وأرجو أن تتسع له المساحة. ونحن نلاحظ بادئ ذى بدء أن أنصار الخطاب التقليدى فى الأزهر هم الأكثرية الغالبة. وهذا أمر طبيعي. فالأزهر مؤسسة ألفية عريقة لها تاريخها وتقاليدها التى يعتز بها الأزهريون، فضلا عن أن اشتغال هذه المؤسسة بعلوم الدين يعطيها حصانة ويفرض عليها موقفا محافظا يصعب تغييره أو تعديله إلا بهزة قوية أو يقظة جديدة، وهو ما حدث بالفعل خلال الأحداث العنيفة والتطورات الكبرى التى شهدتها مصر فى القرنين الماضيين وانتقلت بها فى السياسة والثقافة والاقتصاد والاجتماع من حال إلى حال آخر. فإذا انتقلنا من معسكر المحافظين إلى معسكر المجددين وجدنا أن هؤلاء نخبة قليلة العدد من ناحية، وأنهم ليسوا فريقا واحدا متجانسا من ناحية أخري، وإنما هم فريقان مختلفان لكل منهما موقفه من التجديد وتصوره له على العكس مما نجده فى المعسكر المحافظ. المحافظون متوافقون فيما بينهم. لأن الخطاب الذى يتمسكون به ويعضون عليه بالنواجذ خطاب متحقق بالفعل وحاضر فى مختلف المجالات وله مصادره وتاريخه الطويل وتراثه وشواهده التى تسعف من يطلبها حين يتعرض لأى قضية. أما المجددون فهم طلاب خطاب جديد يجتهد كل منهم فى طلبه وفى تصوره على النحو الذى تمكنه منه حاجته وثقافته والظروف المحيطة به. وباستطاعتنا أن نرى فى هذا المعسكر فريقين رئيسيين: الإصلاحيون أو التوفيقيون الذين نادوا بإضافة علوم العصر الحديث أو بعضها لبرامج الدراسة فى الأزهر ليتمكنوا بها من التواصل مع التطورات التى شهدتها الدولة والمجتمع. والثوريون الذين لم يكتفوا بإضافة العلوم الجديدة إلى العلوم القديمة الموروثة وإنما تجاوزوا هذا المطلب واعتبروه إضافة كمية تملأ رأس الطالب بالمعلومات المتفرقة ولا تغير عقليته ولا تنتج خطابا دينيا جديدا ينفتح على قضايا العصر ويفهم مطالبه ويلبى حاجاته، وهذا لا يتحقق إلا بمراجعة هذا العلم الموروث المنقول عن القدماء مراجعة نقدية نحتكم فيها للأصول أو للنصوص الأولى التى يجب أن نقرأها بعيون عصرنا قراءة جديدة تكشف لنا عن مبادئ الشريعة ومقاصدها التى لا يمكن أن تتعارض مع حقائق العلم أو قوانين الطبيعة أو مطالب البشر، لأن الدين ليس سجنا للإنسان وليس عبئا عليه وليس سلطة قاهرة وإنما هو عون للإنسان وطاقة روحية وفضاء يتسع للحركة والإبداع ولا يضيق إلا حين يستخدمه الحكام الطغاة ويضعون له الحدود التى تحفظ لهم سلطانهم وتؤبده. ولأن الدين صالح بمبادئه ومقاصده لكل زمان ومكان فلابد أن يتجدد وعينا به ويتطور بتطور الزمان وتغير المكان. والخلاف جوهرى كما نرى بين الفريقين. الإصلاحيون نظروا قبل كل شيء للمستقبل المادى الذى ينتظرهم كفئة اجتماعية فى ظل التحولات التى شهدتها مصر وخرجت بها من زمن كانت فيه علوم الدين واللغة هى العدة التى تضمن لصاحبها مكانا مرموقا فى المجتمع ودخلت زمنا جديدا تحتاج فيه لفئات جديدة من المتعلمين المؤهلين للاشتغال بالوظائف والمهن التى جدت فى الدولة والمجتمع.. باختصار، هؤلاء كانوا يطلبون الوظيفة التى ينتظرونها بعد التخرج وكانوا يتحدثون كأنهم أعضاء فى نقابة مهنية. أما الثوريون فكانوا باختصار أيضا يطلبون الثورة التى يتحرر بها المصريون من عالم العصور الوسطى الذى ظللنا نعيش فى ظلماته أكثر من ألفى عام تحجر فيها وتأبد وبدا كأنه قدر محتوم لامفر منه فلابد من ثورة تزلزل هذه الظلمات الكثيفة المتحجرة وتهدمها على رؤوس حراسها من الحكام الطغاة ومن يستخدمونهم من رجال الدين وتساعد المصريين على أن يتحرروا من هذا العالم البغيض ويخرجوا من ظلماته ويتطهروا من أدرانه. ونحن إذن أمام ثلاثة تيارات كانت تتصارع فى الأزهر ولاتزال تتصارع إلى اليوم حول تجديد الخطاب الديني. التيار الرجعى المتشبث بالخطاب التقليدي. والتيار الثورى الداعى لخطاب دينى جديد. وبينهما تيار توفيقى أو تلفيقى يبقى على الخطاب القديم كما هو ويضيف إليه ما يخفف من وطأته ويغرى بقبوله من علوم العصر وشعاراته. وقد مر الصراع بين هذه التيارات بمراحل اختلف فيها المناخ السياسى والثقافى والاجتماعى واختلف بالتالى موقع كل تيار وقدرته على التعبير عن نفسه وتجسيد خطابه فى الواقع. فى زمن النهضة الذى استطاع فيه المصريون أن يبنوا دولة وطنية ويؤسسوا لحكم دستورى ونظام ديمقراطى تقدم الثوريون من أمثال محمد عبده وتلاميذه سعد زغلول، وقاسم أمين، وعلى عبدالرازق وجسدوا خطابهم فى عدة إنجازات، لكن التقليديين الذين كانوا يتراجعون أمام المد الثورى كانوا يتحينون الفرص التى تسنح لهم لإفساد مايقوم به المجددون وقطع الطريق عليهم اعتمادا على كثرتهم العددية وعلى مساندة السلطة لهم كما فعلوا مع الملك فؤاد الذى انحاز للرجعيين من شيوخ الأزهر ليضرب بهم حزب الوفد وزعيمه سعد زغلول، وانحاز له هؤلاء الشيوخ ودعوا لمبايعته أميرا للمؤمنين! ومع أن كفة هذا التيار المحافظ كانت هى الراجحة فى معظم المراحل فقد رأى هذا التيار نفسه مضطرا لأن يتنازل بعض الشيء عن موقفه الرجعى الصارخ وينضم للتوفيقيين الذين قدر لهم أن يحققوا ما لم يكن غلاة الرجعيين يحلمون بتحقيقه، خاصة حين ساعدتهم التطورات السياسية التى عرفتها مصر خلال العقود الستة الماضية التى بدأت بانقلاب عسكرى تحالف فيه الضباط مع الإخوان، وانتهت بوصول الإخوان إلى السلطة عن طريق «الديمقراطية» التى زيفت ستين عاما وأفرغت من محتواها وأصبحت مطية للحكام الطغاة وأجهزة أمنهم. وهذا هو المصير الذى صارت إليه الدعوة لتجديد الخطاب الديني. وفى مقالة الأربعاء المقبل نستكمل الإجابة عن السؤال ونواصل الحديث عن تجديد الخطاب الديني. لمزيد من مقالات بقلم: أحمد عبدالمعطى حجازى