«ولكي تكتب ما لم يكتبه غيرك عليك أن تذهب الى العالم نفسه..الى الحياة ذاتها..الى حواس الجسم الحي. وأن تترجم بأسلوبك الخاص ما تراه هناك وما تسمعه وما تشمه وما تتذوقه وما تلمسه وما تتصوره وما تحلم به .. ترجم الشئ أو الفعل أو الفكرة أو الحالة بلغتك الخاصة» هذا ما ينصح به الكاتب الأمريكي الأرمني الأصل «ويليام سارويان». وبالطبع اذا استبدلنا «لكي تكتب» ب»لكي تعيش» وأكملنا العمل بالنصائح ذاتها فإننا سنعيش ما لم يعشه غيرنا. عشاق الآداب في مصر في زمن ما توقفوا كثيرا أمام كتابات «سارويان»( 1908 - 1981). لأنهم وجدوا في «سارويان» الشرقي المقبل على الحياة والمتدفق في كلامه وأيضا المنغمس بتلقائية وصدق في تفاصيل البشر وأحلامهم البسيطة. تذكرت كل هذا وأنا أمر منذ أيام أمام تمثال ل»سارويان» في يريفان عاصمة أرمينيا. يوجد بالقرب من مبنى الأوبرا وليس بعيدا عن تمثال آخر لعملاق الموسيقى الأرمني «آرام خاتشادوريان». عشاق الموسيقى في مصر أحبوا كثيرا موسيقى «خاتشادوريان» صاحب «سبارتاكوس» و»رقصة السيوف».ولم يكن «سارويان» أو»خاتشادوريان» ممن ولدوا بأرض مصر أو عاشوا بين أهلها الا أنهما كانا الكلمة والنغمة التي لمست أوتار قلوب المصريين المتواصلين مع الابداع الانساني العالمي. هكذا كان الأمر أيضا مع «شارل أزنافور» المغني الفرنسى العالمي وأغانيه الجميلة. وفي الذاكرة المصرية كلما بحثنا عن الأرمني أو الأرمنية نجد أننا نأتي بذكر «نيللي» و»لبلبة» وكيف أدخلتا البهجة في نفوسنا بالأفلام والأدوار التمثيلية والفوازير . وهل يمكن أن ينسى المصريون الطفلة الموهوبة «فيروز» «شيرلي تمبل مصر» وأغنيتها الشهيرة «معانا ريال». انهن معا من عائلة أرمنية و»قرايب» دخلن في عالم التمثيل وتركن لحظات حلوة وممتعة في الذاكرة المصرية. وطالما نحن في السينما يمكن أن نذكر اسما أرمنيا آخر «تاكفور أنطونيان» المنتج السينماني الذي قدم لنا أفلاما عديدة أشهرها «خللي بالك من زوزو». ونعم أنا هنا اذكر أسماء (كأمثلة وليس على سبيل الحصر) وبالطبع أواصل بحثي عن تفاصيل أكثر وأكثر في حياتهم ومساهماتهم الفنية. وتجب الاشادة بجهد المصور القدير سعيد شيمي عندما كتب عن «أوهان» وحياته ودوره المتميز والتاريخي في تصنيع وابتكار المعدات للسينما المصرية. شيمي في اهدائه للكتاب الصادر عام 2008 يكتب :»الى روح أوهانيس هاجوب كوستنيان الشهير بأوهان (1913 2001) مقدرين ومعترفين بانجازه وأعماله وأفضاله». في عالم السينما والفنون أيضا علينا أن نذكر «جورج كازازيان»( من مواليد القاهرة عام 1953) المؤلف الموسيقي صاحب الموسيقى التصويرية لأفلام مصرية ومنها»زوجة رجل مهم» وأيضا «فتاة المصنع». وقد احتفى محمد خان مخرج هذين الفيلمين بالموسيقى المتميز بألحانه المصرية «كازازيان» في مقال كتبه في جريدة «التحرير». وبما أنني أسعى لرصد وتأمل من هو الأرمني في ذاكرة المصريين أذكر بأن كلما ذكرت اسم أرمني .. وسمع المتلقي ال»يان» في نهاية اسم عائلة هذا الأرمني أو هذه الأرمنية تتوالى الحواديت والحكايات عن أرمن عاشوا على أرض مصر.. في القاهرة والاسكندرية وفي بورسعيد وأماكن أخرى على امتداد مصر وفي أي بقعة من أراضيها. وأيضا تأتي سيرة اتقانهم عملهم وجديتهم وحرصهم على الالتزام بحسن الأداء ودقة العمل. ومن ثم تتكرر الأوصاف «هم «شاطرين».. وجادين في حياتهم» و»دايما في حالهم» ..»آه بيحبو الحياة وبيقدرو الضحك .. وانما تحس دايما ان هناك حزنا كبيرا في حياتهم» ولم يتردد أحد الناس في أن يقول لي «هم الكمنجة .. أو الناى في حياتنا» و»دايما تلاقيه واقف بعيد .. ولوحده». الأرمني في «ذهنية المصري» وخصوصا في السنوات التي مضت والتي تسمى أحيانا ب»زمن جميل» هو «الخواجة» أو «الأسطى» صاحب الورشة أو صاحب «محل تصليح وضبط الأدوات الموسيقية» أو»الجواهرجي» في»سكة المناخ» أو «خان الخليلي». أو هي الأرمنية «الخياطة العظيمة» أو «راقصة الباليه». في عالم الصحافة والنشر يظل «صاروخان» رسام الكاريكاتير الشهير رائدا وعلما صاحب بصمات لا يمكن أن تمحى من ذاكرة الكاريكاتير المصري. الصحفي الكبير مصطفى أمين حكى وكتب عن ظاهرة صاروخان و»المصري أفندي»..انها قصة مبدع أرمني (من مواليد روسيا عام 1898) جاء الى مصر عام 1924 وبدأ مع غلاف لمجلة «روزا اليوسف» في مارس 1928 ومعها كانت انطلاقته كرسام كاريكاتير سياسي. أمين وأنا أتحاور معه عن الأرمن في حياته ذكر أيضا اسم الحفار «بربريان». نعم، أسطوات الزينكوجراف .. الطريقة القديمة في طباعة الصور في الصحف والكتب كانوا من الأرمن. والأسطى في هذا المضمار ب»الأهرام» ولسنوات طويلة كان «همبار يالينزيان». الا أن الأرمني الأشهر في «الأهرام» كان «ليفون كشيشيان» «الأرمني الفلسطيني» .. ويعتبر»شيخ حواري الأممالمتحدة كلها» كما وصفه البعض ممن عرفوه وعرفوا دوره الدءوب في الوجود المصري والعربي وتحركاتهم داخل «برج بابل» المعروف ب «الأممالمتحدة» في نيويورك. «كيشيشيان» منذ الخمسينيات من القرن الماضي تعامل مع «الأهرام» وتواجد على صفحات الصحيفة بمراسلاته من نيويورك وأمريكا بشكل عام الى أن توفى عام 1984 والحديث عن سيرة الأرمن في ذاكرة المصريين يأخذنا الى «أنوشكا» المغنية والممثلة وأيضا الى الممثلة الرائعة الراحلة «فانيا اكسجريان» وأدوارها العظيمة في المسرح. ونذكر اسم المعمارية «نايري هامبيكيان» واسهامها في ترميم القاهرة القديمة باب زويلة وآثار مصرية أخرى على امتداد البلاد. ولا شك أن الصور الفوتوغرافية التي التقطها المصور الأرمني الشهير «فان ليو» لطه حسين ونجوم السينما والفن منذ عشرات السنين تمثل ذاكرة حية للماضى المصري. ................................... الأرمني بشكل عام ساهم وشارك وأضاف الكثير لمصر .. البلد الحاضن له. وقد فعل ذلك معتزا وممنونا وفخورا بهذا الاحتضان وهذا الانتماء طوال عمره.كما أنه مهما ابتعد عن المكان أو الزمان فذاكرته حية بهذه الحواديت وأيضا ب»القفشات» والنكات المصرية. ومشاعره ثرية بتلك الأحاسيس الدافئة والأغاني والأفلام .. وهو بالمناسبة «عايز وناوي كمان» يحكيها لأولاده وأحفاده.. ويقول لهم أينما كانوا كانت فعلا أيام حلوة!! [email protected]