هناك مجموعة حقائق يجب تثبيتها من جديد، ويجب أن تكون حاضرة لدى أى مقاربة للحرب التى تخوضها مصر ضد الإرهاب خاصة بعد تفجير الكنيستين. مصر كانت قد اقتربت من إلحاق هزيمة نهائية وحاسمة بتنظيمى داعش والقاعدة فى سيناء ولكن الذين يقفون خلف الفتنة لا يريدون ذلك فلجأوا إلى هذه التفجيرات الانتحارية ودعموا منفذيها، وتركيا وقطر «وجماعتهما» ينفضح أمرهم إذا خرجت مصر منتصرة فى تلك الحرب، وهذا معناه الاستسلام لميزان قوى جديد خاصة بعد استعادة مصر دورها الإقليمى الطبيعي، بما ينطوى عليه من تحول كامل معاكس لإستراتيجية تصعيد قوى بديلة عنها. الإخوان تعودت على الربح بعد وصلات رقص مع الذيل الملتحى للشيطان الداعشي، فالجماعة تعول على أنه كلما اتجهت الحرب ضد الإرهاب التكفيرى نحو الحسم النهائي، زادت فرص انهيارها الكامل بفقدان ورقة أخيرة لا تزال تضغط بها على الواقع المصري، لذا لم تتوقف فى كل المراحل عن التلميح لمن يهمه الأمر بأنها هى القادرة على إنهاء الإرهاب واحتوائه إذا تم قبولها فى المشهد ومنحها ولو بعض ما تريد. سيناريو قذر اعتادت الإخوان على تمثيله يبدأ بدعم الإرهاب وتحريكه من المواقع الخلفية، وينتهى بتفاهمات مع من يتوهم إمكانية مواجهة تنظيمات أخرى تزعم تبنيها خط «الاعتدال الإسلامى» ومقدرتها على احتواء التمرد المسلح، وفى اللحظة الموعودة تتبرأ الجماعة من جميع حلفائها وتحملهم مسئولية الإرهاب، وتتهيأ هى لاستثمار الأحداث فى صورة مكاسب سياسية. الداعشى ليس ساذجًا ولم تغب عنه رسائل الإخوان الأخيرة للمشهدين العربى والمصري، ورسائل ما سميت بمراجعات تشى بأن الجماعة تبحث عن عربة تنقلها إلى موقع سياسى جديد، وعن مخارج لأزمتها الداخلية بعرضها لتسوية مشروطة. إذن ما معنى أن يُوقَع بيان إعلان المسئولية عن جريمة الكنيستين الأخيرة والتى سبقتها باسم »الدولة الإسلامية بمصر« وليس ولاية سيناء كالمعتاد-؟.. إنها رسالة فى بريد الإخوان وتاليًا فى بريد القاعدة الذى يحاول هو الآخر احتلال الفضاء »الجهادى المصري«، مفادها أن داعش لم يعد يقنع بمجرد السيطرة على سيناء والرضا بمجرد كونه ولاية محدودة جغرافيًا تابعة لحكم »خلافة خارجية« بحسب الاتفاق المسبق مع الإخوان، عندما وعدت الجماعة إرهابييها بتمكينهم من السيطرة على سيناء، ليصبح طموح داعش بعد المستجدات التى طرأت أن يحل مكان الإخوان ويقيم الحكم »الإسلامي« وفقًا لنموذجه وأساليبه على كامل مصر، محاولًا جذب كل المحبطين المتسربين من قطار الجماعة المعطل. فى حين تلجأ الجماعة الإسلامية وهى حليف آخر للإخوان لإجراء انتخابات لحزبها لعل قانونية الحزب تبعد عنها النار المشتعلة فى جسد من اختارت الاصطفاف بجانبهم ضد الدولة، وليس أبلغ فى الدلالة على الخداع المقزز من اعتزال ورفض صحبه إسهام بتحريض وشحن دينى لسنوات ثم محاولة عودة بعد ظهور ملامح هزيمة »الجماعة الأم« لإنقاذ كيان الجماعة والحزب! ولو صدقت تلك الجماعة مع ذاتها ومع الوطن لأسهمت منذ البدايات فى حماية الصعيد على الأقل من غزو واختراق أفكار داعش. الإخوان لم تغير من أساليبها القديمة فظلت عنوانًا لسائر السلالات التكفيرية والجهادية التى انحدرت منها، وهى تدير سياساتها بيدين الأولى مختفية ولا تظهر الخيوط التى تُرقِصْ بها تلك الجماعات، والثانية ظاهرة تحترف لعبة المواءمات، فقد تقبل ضمنيًا بالتعددية والتداول، وعلى استعداد أن تكتب فى الدولة المدنية شعرًا، ودونًا عن كل الحركات تتكيف الجماعة سريعًا فى مشهد السلطة، بينما الآخرون لا يمتلكون رؤية لترجمتها عمليًا ولا يجيدون لعبة المناورات السياسية فيلجأون للهروب للأمام، وغالبًا ما تكون الفتوى صادرة لهم من مرجعية إخوانية كوصفة سحرية توهم أحدهم أنه إذا فجر نفسه دخل فورًا الجنة، ولا مانع من الجماعة »الأم« أن تعتبر ذلك فى عداد التضحيات من »أبنائها« لتستعيد هى الحكم على الأرض. نحن فى حرب فى مواجهة حلف استعمارى رجعى يهدد كيان الدولة المصرية وهذه المنظمات الظاهر منها والمستتر والصريح منها والمخادع واللاعب منها والملعوب به- لا يعدو دورها إلا أن تكون ترسًا فى ماكينة التقسيم، أو فى أفضل السيناريوهات جزءا من التمثيل «السنى ضد الشيعى» فى العراق والشام أو «الإسلامى ضد المسيحي» فى شبه دولة خادمة للنفوذين الغربى والصهيونى تقوم على المحاصصة الطائفية. فى سوريا عام 1889م شاعت قصة حقيقية لرجلين سمير المسيحى يحمله محمد المسلم على ظهره؛ فسمير قزم مشلول ومحمد ضرير لا يري؛ فكان القزم يعتمد على محمد فى تنقلاته فى شوارع دمشق، بينما يعتمد محمد على سمير لإرشاده على الطريق وتحذيره من الحُفر، يكملان بعضهما البعض وتغلبا بهذا التكامل على قسوة الحياة بعد أن تقدم بهما العمر وكانا وحيدين يتيمين بلا أهل يسكنان فى غرفة واحدة ويعملان بنفس المكان، سمير حكواتى فى أحد المقاهى ومحمد يبيع البليلة أمام المقهي، وعندما توفى سمير ظل محمد يبكيه أسبوعًا إلى أن وُجد ميتًا حزنًا على نصفه الآخر! عندما تكامل العرب وتعايشوا مسلمين ومسيحيين عاشوا أعزة كرامًا وساروا فى طريقهم مبصرين ولم ينزلقوا فى حفر الكراهية والثارات والأحقاد ولم يطرد أحدهما الآخر وعاشا معًا فى غرفة صغيرة. اليوم سوريا بطولها وعرضها لا تسعهما معًا واستطاع الأعداء توظيف تلك المنظمات الأيديولوجية الفصل بين مكونات المجتمع السورى فصاروا لا »يبصرون« طريق خلاصهم وحريتهم، ولا »يقدرون على السير والنهوض والحركة«. الأحزاب الطائفية لا يمكن أن تسهم فى توحيد دولة أو تشارك فى بناء موحد متماسك من أى نوع، هى فقط تدعم فكرة داعش والقاعدة بشأن مشروع الإمارات ليسيطر كل زعيم جماعة على جزء من الأرض، وساعتها لن يكون هناك فضاء سياسى مصرى لإصلاحه ديمقراطيًا ولا إنتاج ولا ثقافة ولا تاريخ أو حضارة وإرث مشترك.. والأهم أنه لن يكون هناك مجتمع يملك أدنى قدرات مقاومة أعدائنا الذين يحيطون بنا من كل اتجاه. وتلك هى الوسائل التى استخدمها الحلف التركى القطرى فى شق المجتمعات العربية من حولنا على أسس طائفية؛ تفكيك المجتمع وفرزه إلى »إسلامي« وغير إسلامي، ثم تفكيك المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية، ثم القضاء على القدرة الإنتاجية والمؤسسات الاقتصادية، وهذا ما أنهى وحدة الدول وقوض إمكاناتها وقدراتها، وصولًا لتحقيق الهدف النهائى للغزاة وهو القضاء على الدور الإقليمى للدول العربية الرئيسية فى المنطقة. لنجاة الدولة المصرية ومجتمعها ووحدتها لابد من هزيمة الإرهاب المعلن الواضح الصريح فى حالة داعش والقاعدة، أو المتخفى المخادع المناور فى صورة جماعات وأحزاب أخري. لمزيد من مقالات هشام النجار;