أمى .. ثلاثة حروف تزن نفائس الأرض وما عليها، فبمجرد أن تسمع «ست الحبايب يا حبيبة» للعظيمة فايزة أحمد أم كلمة « ماما - أمه - ياماتي» بحنجرة الراحلة العظيمة سعاد حسني، حتما تنتابك قشعريرة خاصة يهتز لها بدنك، وهى فى الوقت ذاته تكفى وتفيض لاستعادة أحلى ذكريات عمر، وهو كفيل أيضا بأن تحس معها بدفء خاص على وقع أنفاسها القادمة من ريح الجنة، وطهارة وعفة الأرض الطيبة التى أودعتها هدية لنا من السماء، وربما كان شجن «فايزة» وعذوبة صوت «السندريلا» – سببا رئيسيا لتفسير كل ما ننطق به دون إدراك، مرددين: ما أجمل الأم التى تعبت وشقت لتربى وتعلم وتسهر على راحة الجميع، ما أعذبها من واحة باعثة على البهجة والأمن والأمان جراء فرط حنوها البالغ أثره داخل أركان البيت والشارع والوطن بامتداد خارطته، ومن ثم تبقى صورة الأم بداخل كل منا مثل روح تهيم فى الفضاء الواسع، تواقة للحب والعطاء فى سموها نحو الملكوت الأعلى محلقة بجناحى محبة وسلام، ونبض قلبها لايتوقف عن الدعاء لمن حملته تسعة أشهر فى بطنها بالسلامة والنجاة لتبقى فى النهاية المرادف الحقيقى للحياة بكاملها وبكل معانيها. ولعلنا الآن أحوج ما نكون إلى ذكر سير ومواقف أمهات مصريات كانت لهن بطولات أسطورية وفريدة، مثل تلك الملكة التى كان القدماء المصريين يحملون المصابيح والمشاعل ويغنون لها الأغنية الشهيرة التى تذاع عادة ليلة الأول من رمضان كل عام، حيث يغنى الأطفال وهم يحملون الفوانيس «وحوى يا وحوى إياحة»، وفى هذا الصدد يطيب لى الحديث هنا بإلقاء الضوء على ملكة مصرية وأم عظيمة تغنى باسمها المصريين قديما وحدثيا وكثير منهم لا يعرفها قائلين : «امدحوا سيدة المصريين، سيدة جزر البحر المتوسط، ذائعة الصيت فى كل بلد أجنبي، هى التى تصنع الخطط للناس، زوجة الملك، ابنة الملك، أم الملك، النبيلة العالمة بالأشياء، التى ترعى شئون المصريين، هى التى جمعت شمل الجيش، ووضعته تحت رعايتها، وحمت الناس، وأعادت المهاجرين، وجمعت الفارين، هى التى هدأت الجنوب، وأخضعت ثائريه، إياح حتب، زوجة الملك، لها الحياة الأبدية». هذه كانت كلمات أحمس قاهر الهكسوس عن والدته الملكة «إياحة» أو إياح حتب، طبقا لنص جاء فى لوحته الشهيرة بمعبد الكرنك، ومعنى «إياح حتب»، أو «إياحة» بالعامية القديمة «قمر الزمان» باللغة العربية، وهى الملكة الفرعونية التى لا يعلم عنها الكثيرون، ولم تحظ بالقدر المناسب من الاحتفاء و التقدير على دورها التاريخى فى حماية مصر والدفاع عنها، على الرغم من أننا نتغنى باسمها كل عام فى مطلع شهر رمضان، «وحوى يا وحوى إياحة». دون أن نعرف سيرة التى سطرت بحروف من نور فى سجل التاريخ العسكرى المصري. نعم السجل العسكرى المصريى ف «إياحة» بحسب المؤرخين حاصلة على عدد من الأوسمة والنياشين العسكرية تم العثور عليها فى تابوتها، من بينها مثلا وسام «الذبابة الذهبية»، والذى يمنح لتقديم خدمات عسكرية استثنائية، وهو ما يسطر اسم «إياح حتب» كأحد أعظم المربين العسكريين، كما تعد أول إمرأة تحصل على أعلى أوسمة عسكرية فى التاريخ المصرى والعالمي، وهى التى تزوجت الملك «سقنن رع»، ووقفت إلى جواره فى حربه ضد الهكسوس، التى انتهت بموته، فلعبت نفس الدور مع ابنها الكبير «كامس» فى حربه ضدهم، حتى مات هو الآخر، فكانت بعده هى الوصية على الملك «أحمس»، الذى لم يتعد عمره وقتها 10 سنوات، حيث قامت بتصريف شئون الدولة، وإدارة الحكم سياسيًا وعسكريًا حتى تولى أحمس مقاليد الحكم، وقادت تلك الفترة شعلة النضال المصرى ضد الهكسوس، حيث قامت بجمع شمل الجيش، ووضعته تحت رعايتها، ومن مآثرها أنها قبيل حرب التحرير، أعلنت نفير الحرب، فأتى الرجال والشباب من كافة بقاع مصر، فقامت بإلقاء خطاب حماسي، قالت فيه لابنها أحمس: «لا تعود إلا بالنصر». جدير بالذكر أن هذه الأم المصرية «إياحة» هى واضعة اللبنات الأولى فى بناء الاستراتيجية العسكرية التى سار عليها ابنها أحمس فى حربه ضد الهكسوس، وإنها تعد صاحبة فكرة إدخال العجلات الحربية لمحاربة الهكسوس، بل كانت تعمل على تعبئة الجيوش وترفع روحهم المعنوية ، وتقف فى الخطوط الخلفية تشجع المصريين على المشاركة فى الحرب، كما يعتقد المؤرخون أن «إياحة» شاركت بالفعل وقادت حملات لقتال الهكسوس، مع وجود احتمالات قوية ترجح كونها قادت الجيش المصرى فى معارك حربية لتأمين الحدود الجنوبية. عاشت إياح حتب 90 عامًا كانت خلالها أسطورة ونموذجا مشرفا للأم المصرية، وعثر العالم الفرنسى «مارييت» على تابوتها فى 5 فبراير عام 1859، فى ذراع أبوالنجا بجبانة «طيبة»، وأرسله على باخرة خاصة إلى متحف بولاق، وكان يحوى مومياتها وأوسمة وخناجر ومجوهرات، وأوقف الباخرة وقتها مدير مديرية قنا، وقام بنزع الأكفان عن المومياء فتحطمت عظام الملكة، وحدثت حرب بين رجال «مارييت» ورجال مدير مديرية قنا، انتهت بغرق المومياء فى نهر النيل، فقام مارييت بأخذ العظام والحلى لإهدائها إلى سعيد باشا، والى مصر، الذى رفض الاحتفاظ بالكنز، وأمر ببناء مكان «يليق به»، فكان «المتحف المصري». وبعد ما مضى يقفز فى رأسى سؤال: ألا تستحق هذه السيدة العظيمة التكريم بمسلسل درامى يليق ببطولاتها الأسطورية ليقدم لنا توثيقا حيا لكل ما هو صادق وعفوى فى حياة الأمة المصرية والعربية؟. [email protected]