بنت عصرها وزمانها، لكنها تبدو فى كتابتها كأنها آتية من تاريخ بعيد، يُنشَّط الذاكرة ويُعيد طرح الذكريات عبر سنة الأولين والآخرين أيضا مسار أحداثها مُحدد سلفاً، وأعيد الترويج لها لتغدو حركة حياة، وعلاقات بشر، وفعلا اجتماعيا، وموقفا سياسيا، وتراكما ثقافيا..إنها الجامعة للمتناقضات، والساحرة بأسلوبها وبلغتها عمقا وبحثا واستنباطا، تركب مطية المعانى فتطوَّعها لما يخدم السياق العام لإبداعها.. تلك هى المبدعة الجزائرية فضيلة ملهاق، صاحبة رواية» ذاكرة هجرتها الألوان»، التى هى كما ذكرتْ» مستوحاة من الواقع، لكن شخصياتها من نسبج إحساس الكاتبة، وأن أيَّ تطابق مع أشخاص معينين بذاتهم هو من قبيل الصدفة». أحداث الرواية غارقة فى محلية جزائرية، جاذبة أحيانا، خاصة حين يتعلق الأمر بتثوير الثقاقة عبر الأمثال والأفعال، وعند طغيان الأيديولوجيا، وتحويل المروث، والمنجز إلى نوع من الأبستيمولوجيا، ولكنها أيضا منفرة فى أحيان أخرى كثيرة عندما تٌظْهر الوجه السودوى للجزائريين، خاصة حين تؤصّل لتراكم العنف من عمر شعب قُدِّرُ له أن يكون فى مواجهة أفعاله سواء أكان مظلوما من غزاة فى معظم مراحل تاريخه، أو ظالما لنفسه على خلفية تحول الحرية لديه إلى نوع من العبثية والاستهتار، لكنها أيضا وضمن الأحداث الراهنة والماضية فى دولنا تعبر عن حالة عربية، لتصنع من تطور الأحداث بعدا إنسانيا مكررا، متجاوزا حدود الزمان والمكان. لست هنا بصدد الدخول فى تفاصيل الرواية، ولا الحديث عن شخوصها، ولا حتى أحداثها، ولكن ما يعنينى وأنا هنا أقدم قراءة سياسية لعمل أدبى أمرين، الأول: الكاتبة من حيث هى ذات مبدعة، ليس فقط لعدد كتبها التى تجاوزت العشرة بين الشعر والنثر، ولا كتبها فى مجالات أخري، ولكن لأنها تشرّبت الثقافة والفكر من منابع شتي، منها: منابع لغوية( العربية، الأمازيغية، الفرنسية، الإنجليزية، الإسبانية)،ومنابع تخصصية( القانون، الدبلومسية، الاقتصاد.. الخ)، ومنابع سابقة لكل هذا وهى الأسرة والمحيط والمدرسة،اى أنها بدأت الكتابة من سن مبكرة، وهذا ينتهى بنا إلى القول: إن التعريف بها عربيا باستثاء كتابات قليلة فى بعض المواقع الإلكترونية الأدبية، اللبنانية مثلا تأخر كثيرا. الأمرالثاني: نصها الروائي» ذاكرة هجرتها الألوان»، مع أنه كما ذكرت الكاتبة» يستند إلى شهادات شخصيّة وأبحاث ومذكرات ووثائق تاريخية، تشربت نكهة الأدب لتعطيها عمقها ومدلولها الإنساني»، إلا أن قراءته من زاوية إنسانية، بعيداً عن أيّ استحضار للماضى القريب بدمويته وجفافه، وقحطه وسودويته، يساعد على فهم أعمق، ولكنه لا يبرّر كل ما حصل، بل يجعلنا نرى الحياة أعمق وأكبر من أن تختزل فى فعل دموي، وبالتأكيد فإن الكاتبة فضيلة ملهاق، تقوم بذلك بوعي، وبحذر شديد، خاصة حين تغوص فى بحور النفس البشرية، أوعندما تجعل سياق الأحداث ناطقا وشاهدا ومشهودا، ومُعبِّرا عن نفسه. رواية ملهاق، لا تعطينا مجالا للفرجة السياسية، ولا تؤكد حضور الفرج من عالم الغيب، ولا حتى زوال الكرب بعد الاستقرار النسبى للمجتمع الجزائري، وإنما تجعلنا نستذكر التاريخ بقوة زمن الفعل أثناء حدوث الفواجع، وروايتها هذه من بين الأعمال الأدبية الجزائرية التى تخرجنا من فضاء «ثقافة الأداة» التى تميَّزنا بها حين كان تراثنا وتاريخنا محفوظ كثير منهما فى الذاكرة وقليل منهما على الحجر، فى الكهوف والمغارات، وآثار متفرقة صنعها فى الغالب الغزاة عبر التاريخ، إلى «ثقافة الرؤية والأيدلوجيا والتاريخ المسجل»، أى إلى الكتابة، وهى بذلك تكفّر عن ذنوبنا فى حق أنفسنا. وإذا نظرنا إلى هذا العمل من زاوية المنجز الأدبى عربيا، فإنه يعبر عن حالة أمة، وصاحبته معروفة بانتصارها كتابة لقضايا العرب العادلة، لهذا يفترض أن تحظى روايتها بدراسات نقدية، بل إن عملها هذا تحديدا يستحق أن يتحول إلى مسلسل تليفزيوني، ليس فقط من أجل مواجهة الإرهاب وإن كان هذا ضرورة، وإنما لأن تسليط الضوء على تجربة الجزائر مع الإرهاب الدموي، يساعد دولا عربية كثيرة على تجاوز محنها الراهنة. المدهش فى هذه الرواية، هو تفاعل القارئ معها، حيث متعة القراءة تتحقق من خلالها غير مبالية بأحداثها أو مآسى شخوصها، مع ان الكاتبة غلّبت ذكريات الفناء على حاضر البقاء، وذلك بكتابة عبارة عن الموت قبل بداية الفصل، وهذا فى معظم فصول الرواية، وبغض النظر عن إذا كانت ملهاق تقصد هذا أم لا، وأكاد أجزم بأنها تقصده، فإن ذلك لم يفقد الرواية جمالها. على العموم، هذه الرواية تمثل المتعة فى نظرى أدبيا وسياسيا، ونجاح هذا العمل تجلى فى الوصول إلى الناس، على الأقل على المستوى المحلي، وهى بذلك تُنشَّط الذاكرة الجماعية، من خلال لغة عميقة، وفهم أعمق لطبيعة المجتمع الجزائري، وتمدُّ من خلالها جسورا مع الوطن العربي، ربما تكون بداية للخروج من دائرة احتكار الأدب والمعرفة والتجارب، وبالتأكيد هناك كُثْر يؤمنون بهذا على امتداد الساحات العربية، وهم من يُعوَّل عليهم فى المستقبل للتغيير ولمواجهة الظلامية، ولمنع تكرار تجربة الجزائر وغيرها من الدول العربية الأخرى فى باقى دولنا. لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه;