لاجئ عاطفى تمتزج بسيرة فنان. شاب متمرد على بيئته: الأسرية والقومية، يحاول أن يصنع لنفسه أباً بديلاً ووطناً بديلاً، حين يصطفى الفنان بليغ حمدى رمزاً أبوياً ومثلاً أعلى، ويختارباريس مأوى له؛ ملجأ لروح معذبة من العالم الثالث تمردت على عائلة إخوانية ومجتمع يتمزق بين تراث دينى وآخر استبدادى وثورة شبابية فشلت؛ فيهرب من ربيع خماسينى خلف فتاة فرنسية حضرت أوَّلَه. كانت «مارييل», هذا اسمها, تعمل فى المركز الثقافى الفرنسى حين قامت ثورة يناير، وسافرت بعد أن خطفت قلب الفتى، فيهاجر به فشله وإحباطه وإنكاره لجذوره كلها طالباً باريس، وليلاه الباريسية التى فتنها فخبلته؛ سافر وراءها فساعدته على أن يضرب جذوراً فى إسفلت عاصمة النور ويتلقى بعض المال فى مشروع تفرغ لكتابة رواية عن فنان مصرى عاش آخر سنوات عمره فى باريس قبل أن يعود لوطنه ليموت ويُدفن فيه: الموسيقار بليغ حمدى. هكذا اجتمعت قصة الشاب وقصة الفنان الكبير فى رواية بعنوان «بليغ» للروائى المصرى الشاب طلال فيصل صدرت هذا العام عن «دار الشروق» ، وهى تتنقل بأسلوب القطع المتقاطع المستعار من السينما بين فصول تروى سيرة بليغ ، وفصول سيرة ذاتية موازية يحكى فيها طلال فيصل حكايته منذ طفولة وجد فيها نفسه فى أسرة سياسية التدين، ثم مراهقة بدأ فيها التمرد على بيئته المتشددة، وشباب بلغ فيه هذا التمرد ذروة جعلته يرفض التراث الدينى والقومى كله والنموذج الأبوى الذى نشأ فى ظله، ويختار نقيضاً له فى شخص الفنان بليغ حمدى ليتوحد به وجدانيا ويقتدى به مثلاً أعلى لشخصية الفنان الذى يعشق الجمال ويعيش اللحظة. ورغم اختلاف السيرتين وتباين الشخصيتين, تدفع حالة التوحد الوجدانى ورغبة الشاب أن يكون هو مثله الأعلى, تدفعه إلى تضفير الحكايتين, عبر قصتى حب عاشها كل منهما تتصاعدان جنباً إلى جنب فى فصول السيرتين المتوازية. لكن قبل أن نستطرد، يجب التفريق بين اثنين يحملان نفس الاسم: طلال فيصل! فهناك فرق بين طلال فيصل كاتب الرواية التى نحن بصددها، وطلال فيصل آخر، هو بطل الرواية، وصاحب السيرة الموازية لسيرة الفنان الذى يعشقه. هو أيضاً يكتب رواية عن بليغ وعن نفسه، ونراه وهو يكتبها, بقلم حبر أحمر فى نوتة جلدية سوداء, لكنها تختلف عن العمل الإجمالى فى الكتاب المنشور وإن كانت تشكل معظمه. هذه فزورة بالطبع، لكنها قابلة للشرح والتفسير. الرواية التى صدرت فى كتاب بعنوان «بليغ» تتكون من خمسة أقسام: 1 -الطبيب النفسى؛ 2 - طلال فيصل؛ 3 « القاضى» 4 « بليغ» 5 - سليمان العطار. القسم الثانى - وهو الأكبر ويستغرق 185 صفحة من إجمالى 335، والذى يحمل عنوان: «طلال فيصل»- يتحدث فيه طلال الشخصية الروائية بضمير المتكلم. والحكاية كما يرويها طلال الشخصية الروائية فى الجزء المعنون باسمه، حكاية عاطفية: حكاية شاب مصرى ساخط على جذوره، عاشق لفتاة باريسية خلبت لُبَّه وكانت فى الوقت نفسه مَنَطَّاً سمح له بالقفز إلى خارج بيئة صار كارهاً لها.هذا الشاب له حكاية عشق أخرى هذه المرة لفنان من وطنه يراه نموذجاً أبوياً مناقضاً تماماً للأب البيولوجى، وموهبة فذة يتطلع لها فنياً ويتمنى أن يحقق فى الكتابة ما حققته فى الموسيقى, وأن يكون مِثله روحاً حرة ومعشوقا منتصراً فى قصص الحب . وطلال الشخصية الروائية: ساخر ومتكبر بعض الشىء، وفى الوقت نفسه يسخر من نفسه ويرفضها، ويتشكك فى نقائها الأخلاقى. بينما طلال فيصل, صاحب العمل المنشور، فنان موضوعى، يتخفى وراء الشخصيات، ويتمتع بمكر فنىّ فاتن، وهو على النقيض من طلال فيصل الشخصية الروائية مدرك للتعقيد الشديد لما يُسمَّى بالحقائق البسيطة، ويقدم لنا عملاً مركباً يتناول سيرة بليغ حمدى، وسيرة (طلال فيصل) بين قوسين بتجرد وحيادية وخبث. وبليغ الذى يكتب عنه (طلال) فى القسم الثانى، يختلف عن بليغ كما يكتب عن نفسه فى القسم الرابع الذى يحوى شذرات سجلها قلم بليغ حمدى أثناء حياته فى مذكرات وتأملات عابرة؛ فهو يبدو عبر أوراقه إنسانأ رومانسيا شديد الرقة والبراءة الطفولية, وليس دون جواناً أبيقوريا كما يتصوره, ويتمنى أن يكونه, طلال الشخصية الروائية . وكذلك سليمان العطار مدرس الموسيقى المغربى الكهل الذى يلتقيه طلال فى باريس ويصاحبه, ليس كمثل سليمان العطار الذى يحدثنا عن نفسه فى الجزء الخامس والأخير. كيف؟ هذا ما سنعرفه, مع الكثير من التفاصيل الأخرى, فى المقالة المقبلة بإذن الله. لمزيد من مقالات بهاء جاهين