فتيات صغيرات من تلميذات المدرسة عندي، ما زلن فى مقتبل أعمارهن. كنت أفاجأ بانقطاعهن عن الدراسة بسبب الزواج، أو تطول مدة غيابهن لأنهن حوامل. تكررت هذه الحالات فى أكثر من بلد أفريقى عملت به. كان منهن المتفوقات، والطموحات. لم يكن يتجاوز عمر بعضهن الخامسة عشرة. ............................................................ وما يدعو للدهشة هو أننى كنت أتلقى مثل هذه الأخبار من أولياء أمورهن ببساطة شديدة. ثم اتضح لى أن هذه الممارسة مرتبطة بمفاهيم عقائدية ودينية راسخة، تعمقت جذورها عبر الأجيال خاصة فى القرى النائية. ورغم أن زواج القاصرات لا يقتصر على طبقة اجتماعية معينة، إلا أنه واسع الانتشار فى الطبقات الفقيرة، والمعدومة. فمن ناحية يزداد مهر العروس كلما صغر سنها، ومن ناحية أخرى تتخفف أسرة الفتاة من أعباء تعليمها ورعايتها وتوفير الأمان لها. يتخلصون منها وكأنهم يلقون بحمل ثقيل من فوق رؤوسهم، خاصة وهم يعيشون قلق أن تدخل الفتاة مغامرات عاطفية، أو أن تحمل خارج دائرة الزواج، فتفسد بذلك حياتها، وتجلب العار لأهلها. فى تقرير لمنظمة الأممالمتحدة للطفولة اليونيسيف عام 2014 جاء فيه أن عدد الزيجات للفتيات القصر فى أفريقيا قد يتضاعف إلى 310 ملايين فتاة بحلول عام 2050 إذا ما استمر الحال هكذا. ويوصى التقرير بضرورة العمل بجدية للحد من الزواج المبكر فى أفريقيا، وحذر التقرير بأنه لو لم تتخذ خطوة فعالة فى هذا الصدد، فستتفاقم المشكلة. ينتشر الزواج المبكر فى دول أفريقيا بنسب مختلفة. من الدول ذات المعدلات الأعلي، النيجر، وتشاد، ومالي، ومالاوي، وغينيا، وموزمبيق، وإثيوبيا، حيث يسمح بالزواج فى بعضها من سن 15 عاما، ويمكن للتقاليد والمحاكم الدينية أن تنزل بالسن إلى أصغر من ذلك. ومن الدول ذات النسب العالية مالاوى والنيجر76 %، وأقلها فى الجزائر 3 %، أماغرب ووسط افريقيا فالنسبة 42% بينما شرق وجنوب أفريقيا 36 %. وعلى خلاف المنشود، بدلا من أن تخرج العروس بزواجها من دائرة الفقر، فإن الدائرة الجهنمية تستمر فى الدوران، لضياع فرصتها فى أن تتكسب من وظيفة، خاصة بعد أن تخلت عن الدراسة. وهى لم تحرم فقط من التعليم، ولكن الأخطر أنها حرمت بشكل تعسفى من طفولتها. فغالبا ما تتزوج بشخص لا تعرفه، ربما يكون ضعف عمرها. وتكون أكثر عرضة للإيذاء، وسوء الاستغلال، تأتى إلى الحياة بطفل لا قبل لها بتربيته. ترزح تحت عبء ثقيل نفسياً، وصحيا، واجتماعيا، فمن واجباتها الاهتمام بشئون البيت، والعمل فى الحقل، والإذعان لمتطلبات أهل الزوج، هذا بالإضافة إلى رعاية الأطفال. ومن الناحية الصحية، فهناك خطورة كبيرة على حياتها، وعلى حياة الطفل، خاصة فى فترات الحمل والولادة. حيث لم يكتمل نضج أجهزتها التناسلية، ولم تأخذ وضع الاستعداد الكامل للحمل، مما قد يصيبها بالامراض وتهتكات، ووفيات. ولقد بينت إحصاءات منظمة الصحة العالمية ارتفاعا خطيرا فى معدلات الإصابة بسرطان عنق الرحم cervical cancer، وفى معدل وفيات الأمهات القاصرات وأطفالهن. كما بينت الإحصاءات أن سبب الوفاة الرئيسى للمتزوجات فى الأعمار من 15 – 19 عاما هو الحمل. وشاهدت بنفسى بعض المواقف، وسمعت بعض النهايات المأساوية لتلميذات سابقات، كان بعضهن متفوقات، من أصيبت بالإيدز من زوجها لتعدد علاقاته، ومن مات طفلها الذى ولد مبكرا، ومن تدهورت صحتها. وعلى الجانب الآخر كانت هناك حالات تمرد، ورفض لسياسة الأمر الواقع. حالات هروب من الزوج، هروب من القرية والاحتماء بالسلطات. وأذكر أستاذة فاضلة تعمل عضوا فى إحدى المنظمات النشطة التى تدافع عن حقوق الطفل وضد زواج القاصرات. كانت تقدم نفسها كمثل للتمرد على القيم البالية، وهى تستعرض مافعلته بعد أن حملت وهى طفلة فى الخامسة عشرة وكانت فى مرحلة التعليم الثانوية. أرغموها على ترك المدرسة، لكنها رفضت، وأصرت على تكميل تعليمها. ساعدها أحد أساتذتها فى التوسط لدى والديها حتى اقتنعا. وهناك أمثلة عديدة ونماذج مشرفة لسيدات مجتمع ناجحات فى أفريقيا يعرضن تجارب تمردهن على هذا النوع من الزواج، يدافعن بكل الوسائل عن حق الفتيات الصغيرات فى حياة صحية، وألا يسمح للزواج بفتيات أقل من 18 عام. فهذه السن المتفق عليها تمثل الحد الأدنى من النضج عاطفيا وجسديا واجتماعيا. ومن أكثر الناشطات شهرة فى مالاوى فى هذا المجال السيدة ثيريسا كاتشينداموتا Theresa Kachindamota رئيسة حى ديدزا وسط مالاوي. لم تبخل بما تمتلكه من نفوذ على انقاذ مئات الفتيات القاصرات من براثن الزواج المبكر، ونجحت فى إعادتهن إلى مدارسهن، بل وتكفلت بتعليم بعضهن. هذه السيدة الحديدية توعدت بعقاب شديد لكل من يخالف القانون. وكان لها جهد محمود وحاسم فى العمل على التخلص من معسكرات التأهيل للصغيرات فى دولة مالاوي. ومن المعروف أن مالاوى واحدة من أكثر الدول التى ينتشر فيها الزواج المبكر. جرت العادة فى هذا البلد أن تؤخذ الفتيات الصغيرات إلى معسكر تأهيل لمدة أسبوع تترأسه إحدى السيدات العجائز ويطلقون عليها لقب «أنامكنجوي» «anamkungui» تكون مهمتها تعليم الفتيات وتدريبهن على فنون الطهى والتدبير المنزلى وعن العلاقة مع الجنس الآخر وفنون الحياة الزوجية بشكل عام. وفى قرى مالاوى ينتشر زواج الفتيات الصغيرات بمن يكبرهن سنا، لارتفاع مهرهن «لوبولو lobolo». وللحد من الظاهرة، قامت حكومة مالاوى فى عام 2015 بإصدار قانون يقضى بمنع زواج القاصرات، وبرفع الحد الأدنى إلى 18عاما. وجندت أكثر من 230 متطوعا ومتطوعة لحماية القاصرات بالمشاركة مع جمعية حقوق الإنسان، والعاملين بالكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وبعض المتخصصين من أفراد الشرطة. فى موزمبيق، أكثر المعدلات ارتفاعا نجدها فى الشمال، وتحديدا فى بمبا حيث تصل النسبة 50 %. ومثلما هو الحال فى مالاوي، فهم أيضا يقومون بتدريب وتأهيل الفتيات الصغيرات للزواج بمجرد ظهور بوادر البلوغ عليهن، حيث يخرجهن من مدارسهن، ويعهدن بهن إلى قيادات نسائية متخصصة فى مجتمعهن يطلقون عليهن «ماتروناس – matronas». وفى تنزانيا التى كان يسمح بالزواج فيها من سن الخامسة عشرة قامت مجموعة حقوقية نسائية «MSICHANA» بالتقدم بأوراق عمل ومقترحات تدافع بها عن حقوق القاصرات فى التعليم، وتطالب بمنع الزواج المبكر. وكنتيجة لنشاط ومساعى المجموعة الحقوقية النسائية، أصدرت المحكمة التنزانية العليا حكما عام 2016 يقضى بمنع زواج القاصرات حتى لا يحرمن من التعليم. كما تقضى بالمعاقبة بالسجن للرجال الذين يتزوجون بفتيات صغيرات. وفى إثيوبيا تتفاوت المعدلات من إقليم لآخر، ورغم أن السن القانونية للزواج 18عاما لكن من الصعب تطبيق القانون خاصة فى القري، لعدم انتظام سجلات المواليد والوفيات والزواج. فى منطقة «أمهاراAmhara region» فى إثيوبيا زواج الصغيرات واسع الانتشار، رغم حملات التوعية المستمرة. حيث تعمل منظمة «care» المتخصصة فى مكافحة زواج القاصرات على التوعية بخطورة هذه الممارسة، وبشكل مواز ينشط العمل الاجتماعى لتقديم الرعاية المستحقة للمتزوجات القاصرات، وإلى أطفالهن. ومن المشاريع اللافتة للنظر فى هذا الشأن، هو المشروع الذى تبنته مديرة إحدى المنظمات الحكومية لرعاية السكان، ويهدف هذا المشروع إلى تشجيع الأسر الفقيرة فى القرى على ألا تزوج بناتها فى سن مبكرة. وذلك بتقديم ماعز كهدية لكل أسرة لا تزوج بناتها فى سن مبكره. وقد نجح هذا المشروع إلى حد الكبير، غير أنه لم يعمم لتكلفته الباهظة. فى نيجيريا 43 % من الفتيات يتزوجن قبل بلوغ الثامنة عشر من عمرهن، بأعلى نسبة فى الشمال، وأقل نسبة فى الجنوب. لم يتحدد الحد الأدنى للزواج فى دستور نيجيريا، وعندما حاولوا سن قانون لرفع الحد الأدنى للزواج، قوبل بمعارضة من الولايات المسلمة فى البلاد. لتنهض منظمة حقوق الطفل بالبلاد وتحدده ب 18عاما. من 36 ولاية، 23 ولاية أخذت القانون على محمل الجد. فى نهاية 2015 تأسست مجموعة عمل من وزارة شئون المرأة والتنمية الاجتماعية للعمل على الحد من ظاهرة الزواج المبكر فى نيجيريا. فى زمبابوى يناير 2016 رفعت سيدتان تزوجتا وهما قاصرتان قضية تطالبان فيها بتحديد سن الزواج ليكون 18 عاما تماشيا مع ميثاق الأممالمتحدة لحماية الطفولة وأصدرت المحكمة حكما بهذا الشأن. ولتنامى الرغبة الأكيدة من القادة الأفارقة للعمل على محاربة ظاهرة زواج القاصرات، عقدت المؤتمرات، واتخذت قرارات حاسمة. فى سبتمبر 2015 اجتمع قادة من أفريقيا مع قادة آخرين من دول حول العالم، وتبنوا مشروع الأممالمتحدة للتنمية المستدامة، وكان من ضمن الأهداف التى ينشدون تحقيقها فى خلال 15عاما هو القضاء بشكل كامل على ظاهرة الزواج المبكر. وفى نوفمبر 2015 استضافت زامبيا مؤتمر قمة الاتحاد الأفريقي، كان الهدف الرئيسى من انعقاده هو العمل على إنهاء زواج الفتيات الصغيرات. وقد ألقت رئيسة مفوضية الاتحاد الافريقى الدكتورة دالمينى زوما باللائمة على نظرة المجتمع الدونية للفتيات باعتبارهن فى مرتبة أدنى من الرجال، كما أنها لم تعف التقاليد البالية المتوارثة من الاتهام. أما كورنيليس ويليامز المدير المساعد لحماية الطفولة «اليونيسيف» فلقد حذر من العنف الجسدى الذى يمارس ضد الفتيات الصغيرات، وأشار إلى الامراض الخطيرة وحالات الولادة المستعصية والحالات الحرجة التى تنتهى بالموت. وكان الاتحاد الافريقى قد أطلق حملة فى مايو لنفس العام لإنهاء الظاهرة. أعقب ذلك خطة عمل للحكومات، وإطلاق حملة لمدة عامين لاحتواء الممارسة والحد من انتشارها. رئيس جامبيا يحيى جامع الذى سبق أن أعلن بلاده جمهورية إسلامية فى 11 ديسمير 2015. أعلن بشكل حاسم وقاطع، فى بداية عيد الفطر الماضى أنه سيعاقب بالسجن حتى 20 عاما كل من تسول له نفسه تزويج فتاة أقل من 18 عاما سواء من الآباء أو من رجال الدين المحررين للعقود، وبعقوبة أقل لمن يعرف بالأمر ولا يبلغ عنه. ومن الجدير بالذكر أن جامبيا قد أصدرت قانونا فى ديسمبر 2015 بمنع ختان البنات وبعقاب بالسجن وغرامة كبيرة لمن يخالف القانون. وقد قوبلت هذه القرارات بترحيب شديد من منظمات حقوق النساء. وازداد حماسهم, فتقدموا بأوراق عمل لإطلاق حملات مكثفة لتوعية وتشجيع المواطنين على الحد من الظاهرة، والقضاء عليها.