يعكس الاستدعاء الساذج لمفهوم الجهاد الإسلامى فى العالم المعاصر، وما يولده من عنف عبثي، عجزا مزمنا لدى القائلين به والممارسين له، عن إدراك طبيعة البيئة التاريخية ودورها فى الحكم على مشروعية الأفكار والمواقف والأدوار، فالفكرة التى كانت مركزية فى عصر ما قد تستحيل هامشية فى عصر آخر، والفكرة التأسيسية فى زمن ما قد تصبح هزلية فى زمن تال. وهكذا فلابد من التمييز بين مفهوم الجهاد كما مورس فى عصر تأسيس الإسلام والقرون التالية عليه، فى سياق العالم التقليدى السابق على الحداثة، إذ يكفى التذكير بمنطق التاريخ الذى جرت فيه وقائعه القديمة، حيث الحرب كرا وفرا أقرب إلى حركات الشهيق والزفير، تمارسها الشعوب والجماعات والأمم طلبا للمال والسلطان، ناهيك عن التبشير بالعقائد والأديان. ومن ثم كانت حركة الفتوح «الجهاد العسكري» تعبيرا أمينا عن جوهر هذا العالم. وبين النزعة الجهادية العبثية، المثيرة للتوترات الأمنية والعنف العدمي، والتى لا يمكن فهمها إلا باعتبارها وعيا بدائيا مضادا للعالم الحديث، يُفقد المفهوم التاريخى أصالته، ويفقد الإسلام نفسه إنسانيته. تعكس تلك الفجوة بين المفهوم التاريخى والنزعة العبثية تناقضا بين إدراكين أساسيين لطبيعة الإرادة الإنسانية ودورها فى حركة التاريخ الإنساني: أولهما يمكن وصفه بالإدراك النقدى / التاريخي. وثانيهما يمكن وصفه بالإدراك المثالى / الأسطوري. حسب الإدراك الأول يسود تصور تاريخى لمعنى الإرادة الإنسانية وحدودها، لا يختزله فى الشجاعة النفسية والرغبة فى مجرد التضحية البدنية على الطريقة الانتحارية، بل يدرك الطرائق المتعددة لحضور وفعل تلك الإرادة فى العالم الحديث، وهنا يجد المسلم نفسه مدفوعا، بحكم إيمانه، إلى أعلى درجات المعرفة والعقلانية طاعة لربه الذى اختاره خليفة فى الأرض، فإذا به أعلم العلماء. كما يصبح قادرا على استخدام معارفه بأقصى درجات الشجاعة التى توفرها له العناية الإلهية، ويضمنها الشعور بالثقة فى الحقيقة الإلهية، فإذا به أشجع الشجعان. ومن ثم يتكامل العقل مع الإرادة، ويصبح المؤمن منتصرا بقوة العلم وشجاعة الإيمان معا، لا فى الحروب فقط بحسب الفهم القاصر للجهاد بل فى كل سباق نحو التمدن والتحضر والتقدم والعمران. وحسب الإدراك الثانى يسود تصور أسطورى عن الإرادة نفسها، يمنح للشجاعة النفسية والرغبة فى التضحية الدور الوحيد أو على الأقل الدور المركزى فى صنع التاريخ، ولكنه يحررهما من كل القوالب التاريخية والأبنية الحديثة المفترض لها أن تنظم عملهما، ظنا بأن الكفاح الجسدى وحده يظل حتى الآن كما كان لدى المسلمين الأوائل بمنزلة الآلية الوحيدة لتغيير العالم، فلا أهمية تذكر للقيم العصرية كالعلم والعقلانية، ولا أهمية أصلا للأبنية الحديثة القادرة على احتضان تلك القيم وتنظيم عملها. ومن ثم يتصور المسلم أن تقواه العميقة سوف تمكنه من هزيمة الدبابة بالسيف أو إسقاط الطائرة من فوق حصان، وهو ما لم يحدث ولن يحدث، فإذا ما انهزم المسلم بدا وكأن الإسلام نفسه قد هُزم، ولأنه لا يريد الاعتراف بهزيمة الإسلام فهو يفضل الموت على مثل هذا الاعتراف، ولذا استحال الجهاد عمليات انتحار عبثية ونزعات تدمير عدمية تنال من وجود المسلم وتشوه الإسلام فى آن، حيث يقع التناقض بين الإرادة والعقل، بين الحرية والمعرفة، بين التاريخ والعصر. حسب الإدراك الأول يبقى الجهاد مفهوما حضاريا كبيرا، يعكس عالمية الإسلام وإنسانيته، كدين يجسد الصورة المثلى لعهد الاستخلاف بين الله والإنسان، ومن ثم يقيم توازنا دقيقا بين طرفى الثنائية الوجودية (الحياة الموت)، بحيث تصبح لحياة المجاهد قيمة فى ذاتها، فهى ليست مجرد مدخل الى الموت عبر الكفاح العسكرى (الجهاد الأصغر) الذى بات معادلا معاصرا للانتحار العبثي، بل ركيزة لإعادة صياغة عالم الشهادة الدنيوي/ الواقعي/ الإنسانى على النحو الذى يُرضى الله، وهو الجهاد الأكبر بحسب النبى (صلى الله عليه وسلم). ومن ثم فالمسلم الصحيح لا ينزع الى تفضيل الموت (الانتحار) من دون تردد أو تعقل، ولكنه يرضى ب (الشهادة) إيثاراً لله عند الضرورة القصوي.. إنه الفهم الذى يحترم الحياة كقيمة فى ذاتها، ويجاهد لترقيتها، ومن ثم يدفع المسلم للمشاركة فى جماعة تدافع عن حقوق الإنسان، أو تدعو لتحرير الأوطان المحتلة، أو لتحقيق العدالة الاقتصادية، وليس فى تنظيمات إرهابية أو أعمال انتحارية أو الهجوم على دول وشعوب غير مسلمة. وحسب الإدراك الثانى يصير الجهاد (ظاهرة) لا تفرخ سوى إرهابا، يقضى على إنسانية الإسلام وعالميته، انصياعا للتشوهات التى جرت للمفهوم من قبل فقهاء العصور الوسطى إبان الحملات الصليبية والهجمات التترية والمغولية، أولئك الذين اختزلوه فى ثنائية (دار الحرب ودار السلام) حتى أصبح المجاهدون، كما تقول إحدى أدبياتهم مفاخرة، مجرد (طلاب موت) ، يعرفون كيف يموتون فى سبيل الله بغيا على الناس، ولا يعرفون كيف يحيون فى سبيله انتصارا لرسالة الاستخلاف التى تطالبهم بتحقيق التقدم وترسيخ العمران.. بل إنه يقترب من حد الأيديولوجيات العدمية، التى قد لا تعى أهدافها ولا ترسم غايات واضحة لأفعالها التدميرية، وتكاد تستقطب من خارجها الأسوأ من النزعات البشرية العبثية والهدامة لصناعة خليط من الرعب، على نحو ما فعل تنظيم داعش، إذ أدمج شذاذ الآفاق من كل صوب، بأفكاره العبثية فى كل اتجاه، ليصنع فى النهاية وحشا كبيرا تغذى على لعبة الأمم وصراعات الأجهزة الاستخباراتية، ناهيك عن المظالم المجتمعية، قبل أن يعود ليلتهم أوطاننا التى كانت مستقلة، ومجتمعاتنا التى كانت متمدينة. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم;