لا يكاد المرء يفتح صحيفة أياً كان البلد الذى تصدر عنه أو اللغة التى تُكتَب بها إلا ويجد سيلاً من المقالات عن هذا الرجل الذى وصل إلى قمة السلطة فى الولاياتالمتحدة ، وكيف لا وهى الدولة الأقوى فى العالم وهو أكثر رؤسائها إثارة للجدل على الأقل فى تاريخها المعاصر ، وقد احتدم الجدل بعد فوز ترامب المفاجئ بين من رأوا أن أفعال " الرئيس " سوف تكون مغايرة لأقوال " المرشح " بحكم دور " المؤسسة " فى تهذيب التوجهات التى سادت الحملة الانتخابية ومن قالوا إن ترامب قد أتى بنهج خارج عن مألوف السياسة الأمريكية وآراء قاطعة فى هذا السياق لا يمكن أن يتخلى عنها بسهولة وكالعادة تجئ الحقيقة فى نقطة تقع بين الطرفين يبدو لنا حتى الآن أنها ستكون أقرب لترامب المرشح وإن كنا بعد هذه الأيام القليلة التى انقضت على تسلمه السلطة لا نستطيع الجزم بدرجة هذا القرب كما أن أحداً لا يمكنه التنبؤ بتداعيات سياساته ومدى تأثير هذه التداعيات على مستقبله السياسى ، فقد بدا ترامب فى حفل تنصيبه متمسكاً بفكرته الرئيسية المعادية لمؤسسة واشنطن إذ بدأ خطابه فى المناسبة بالتأكيد على أن يوم تنصيبه ليس يوم انتقال السلطة من رئيس لرئيس أو من حزب إلى حزب وإنما من واشنطن إلى الشعب وكأن أسلافه كافة بمن فيهم الأربعة الذين حضروا الاحتفال كانوا عرائس ماريونيت تُمسك " المؤسسة " بخيوطها ، ومع ذلك فقد جاءت أول زيارة له للمؤسسة ممثلة فى المخابرات المركزية حيث أثنى عليها وعلى رجالها بعد سخريته منها وقال لهم إنه " يحبهم " ولكنه فى الوقت نفسه اتخذ إجراءات فورية لإلغاء قانون الرعاية الصحية الذى حارب أوباما من أجله وألغى فى أول يوم كامل له فى العمل اتفاقية التبادل الحر عبر المحيط الهادى التى وصفها فى حملته الانتخابية بأنها رهيبة وأوقف التمويل الفيدرالى للجمعيات التى تساعد فى مجال الإجهاض ، غير أن هناك قضايا أخرى شرع فى اتخاذ خطوات بشأنها وإن لم يحسمها بعد كاتفاقية التجارة الحرة لشمال أمريكا التى أعلن أنه سوف يعيد التفاوض بشأنها مع كنداوالمكسيك ونقل السفارة الأمريكية فى إسرائيل إلى القدس الذى قيل إن مراحل النقاش الأولى بشأنه قد بدأت ، وهناك مسائل مسكوت عنها حتى الآن كالموقف من ترحيل المهاجرين الشرعيين وبناء سور مع المكسيك وموقفه من سياسة الصين الواحدة والاتفاق النووى مع إيران . ومعضلة ترامب أنه يتبنى هذا البرنامج الخارج عن المألوف فى ظل سياق خارج عن المألوف بدوره يتمثل فى معارضة شعبية غير مسبوقة وجديدة على الديمقراطية الأمريكية، ومن المعروف أن فوزه بالرئاسة لم يكن شعبياً وإنما يرجع الفضل فيه إلى نظام الكلية الانتخابية ، ومن الأهمية بمكان أن هذه المعارضة قد استمرت ربما بضراوة أكبر إلى ما بعد تنصيبه ناهيك عن معركته المحتدمة مع الإعلام وعداء قطاعات مهمة من النخبة المثقفة والسياسية والفنانين له بالإضافة إلى ما يمكن تصوره من أن " المؤسسة " التى أعلن الحرب عليها سوف تبادله عداءً بعداء وبالتالى فإن أيامه فى الحكم لن تكون سهلة بالتأكيد خاصة إذا ما جاءت سياساته بنتائج على عكس ما يشتهى وهو أمر تصعب حساباته فى اللحظة الحالية ، بل إن البعض يغامر بالافتراض بأن ترامب لن يُكمل مدته الأولى لفشل ذريع أو خطأ قاتل يقع فيه أو يُجلب من ماضيه أو حتى بالاغتيال ، وأياً كانت دقة هذه التحليلات أو التنبؤات فإننا لا نملك رفاهية الاكتفاء بمتابعة ما يجرى لأن أفكار ترامب وسياساته المرتقبة تمس قضايا بالغة الحيوية بالنسبة لنا بعضها على نحو إيجابى والبعض الآخر على العكس تماماً ، وعلى سبيل المثال فإن موقفه من مقاومة الإرهاب مواتٍ لنا خاصة فى هذا الوقت الذى توحش فيه هذا الإرهاب وكذلك تخليه عن تلك الفكرة الفاسدة التى ترى للحركات المتسترة بالإسلام رقماً أساسياً فى معادلة المستقبل لدول المنطقة ومع ذلك فإننا لا ندرى مدى الخلط المحتمل بين حربه على الإرهاب والمساس بالإسلام ، وهناك أيضاً رفضه مبدأ التدخل فى الشئون الداخلية للدول وحديثه عن دور قيادى أمريكى يتحقق بتقديم النموذج وليس بالإكراه ، أما تحديه مسلمات العولمة وفرض القيود الجمركية فيمكن أن يوظف لفائدتنا فى الظروف الراهنة التى نحتاج فيها لإجراءات حمائية خاصة أننا لا نلعب دوراً يُذكر فى الاقتصاد المعولم ، وهناك بعض المواقف التى قد لا تكون ذات تأثير علينا كموقفه الملتبس حتى الآن من حلف الأطلنطى ، ولكن على الناحية الأخرى فإن موقفه من إسرائيل مروع ويمكن أن يسبب لنا إحراجات هائلة كذلك فإن نظرته السخيفة إلى دول الخليج كمستودع أموال يجب أن يمول أى دور دفاعى أمريكى عنها لا يمكن أن يكون مقبولاً خاصة أن الولاياتالمتحدة تحقق من خلال علاقاتها بدول الخليج العربية أرباحاً هائلة سواء من خلال مبيعات السلاح أو شركات البترول . وإذا كان ترامب يواجه معضلة فى تمرير سياساته بسبب قيود مؤسسية ونخبوية وشعبية فإننا نواجه بدورنا معضلة فى التعامل معه من منظور أن العائد الإبجابى لتلك السياسات قد يرتبط بمواقف شديدة الإحراج لنا ولذلك لابد من الاستعداد لمواجهة هذه المواقف برؤية واضحة وهادئة تتحسب لكل الاحتمالات وتحسن شرح المواقف المصرية والعربية فى كل القضايا موضع الخلاف بين مصالحنا وتوجهات ترامب وتتحمل السياسة المصرية مسئولية خاصة فى هذا الصدد نظراً لمؤشرات العلاقة الإيجابية بين ترامب والرئيس السيسى . لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد