هذا المشهد ربما يلخص جوانب شخصية كثيرة لدى كل من الرئيس أوباما ونائبه جوزيف بايدن: كان الابن الأكبر لبايدن (بو) يعانى من تدهور حالته الصحية، بما عاقه عن مواصلة العمل كمدع عام لولاية ديلاوير. ولأنه ليس لديه دخل آخر غير عمله بدأ والده نائب الرئيس وإخوته يفكرون فى كيفية توفير نفقات علاجه الباهظة ففكر بايدن فى بيع بيته الوحيد. وعندما عرض الأمر على أوباما أثناء تناولهما الغداء وقف أوباما وقال له: أنت تحب هذا البيت، سأعطيك ماتحتاجه من مال، لكنك ستعدنى الآن بعدم بيع بيتك». هذه الحكاية توضح كيف أن شخصا مثل بايدن لم يكن لديه ولدى أبنائه مايكفى لعلاج ابنه. وتوضح أيضا شخصية أوباما الذى رفض (بمجدعة) أن يبيع نائبه منزله وتطوع من ماله الشخصى الذى جمعه من بيع كتبه للمساعدة فى العلاج، وهو مالم يحدث حيث توفى (بو) بعدها منذ أكثر من عام. كلام كثير يمكن أن يقال عن أوباما وسياساته لكن الذى لاخلاف عليه هو أن هذا الرجل وأسرته وإدارته أمضوا ثمانية أعوام تحت الضوء المباشر دون أن تظهر فضيحة شخصية أو عامة لأى منهم، وكان أوباما وزوجته ميشيل نموذجا يحتذى فى السلوك والمواقف الإنسانية حتى فى مواجهة حملات شخصية وعنيفة من قبل الجمهوريين. هذا لايعنى التوافق على كل مافعله أوباما داخليا وخارجيا، وهو الآن يغادر البيت الأبيض قلقا على كل ماتمكن من تحقيقه، مع دخول رئيس جديد بدأ تحوله من مجال المال والأعمال إلى السياسة بالتشكيك فى شرعية أوباما وكونه أمريكيا. فقانون الرعاية الصحية الشهير مهدد الآن بالإلغاء مع إدارة جمهورية تحظى بأغلبية فى الكونجرس بمجلسيه، وهو ماينطبق على الكثير مما تحقق فى المجالات الاقتصادية والإجتماعية وحماية البيئة وغيرها. أما فى السياسة الخارجية، فاتسمت توجهات أوباما بالتردد والحذر فى استخدام القوة الأمريكية تعبيرا عن قناعات شخصية لديه وتعرض بسببها للكثير من الانتقادات والضغوط داخليا وخارجيا. واعتقادى أن أكبر فشلين سيلاحقانه هما عدم التوصل إلى اتفاق سلام فلسطينى إسرائيلي، وتدهور الأزمة السورية. فى النقطة الأولى لايمكن إنكار أن أوباما بذل جهودا كبيرة، ودخل فى مواجهات شخصية عنيفة مع رئيس الوزراء الإسرائيلى بينجامين نيتانياهو، لكنه فشل فى النهاية لعاملين: الضعف العربى العام، و تولى حكومة نيتانياهو التى وصفها وزير الخارجية جون كيرى بأنها الأكثر يمينية فى تاريخ إسرائيل. أما الفشل فى الملف السورى فتمثل أساسا فى التقدير الخاطئ لقوة داعش بما سمح بانتشارها وتفكك دولتى العراق وسوريا وتفجر أكبر أزمة لاجئين على مدى عقود تهدد الآن بتحولات جذرية لصالح اليمين المتطرف فى العديد من الدول الأوروبية بل وفى أمريكا ذاتها. لكن أوباما جاء فى الحقيقة كرد فعل على سياسات إدارة جورج بوش بما تميزت به من جرأة ومبالغة فى استخدام القوة العسكرية واستعداد للتدخل لتغيير أنظمة كما حدث فى العراق. وإذا كان بوش يرى العالم فى إطار الأبيض والأسود فإن أوباما بحكم تكوينه الشخصى يعيش فى المنطقة الرمادية التى يحاول من خلالها أن يتفهم ويستوعب كل التناقضات الموجودة دون اتخاذ موقف حاسم منها، بما أصفه أحيانا بالأعراض (الهاملتية) نسبة إلى شخصية شكسبير الشهيرة. وربما يفسر ذلك أيضا موقفه مما عرف بثورات الربيع العربي، حيث مال فى البداية للمثالية فى تأييد حركات التغيير لكن لم تكن لديه رؤية واقعية لكيفية إدارة الفراغ الناجم عن انهيار أنظمة مستقرة على مدى عقود. غير أن التسليم بأخطاء أوباما فى إدارة الأزمة لايعنى القبول ببعض الأفكار الشائعةأن حكومته كانت الطرف المتآمر لإحداث الفوضى وإسقاط الأنظمة، فهو كلام مرسل ليس عليه دليل سوى بعض العبارات (المفبركة) التى نسبت إلى شخصيات فى الإدارة الأمريكية مثل هيلارى كلينتون التى تم نقل فقرات من كتاب لها تشير إلى التآمر الأمريكى دون أن يكون لهذه الفقرات وجود من الأساس فى كتابها. أما الاتهامات بعلاقة إدارته بالإخوان فكانت فى الأغلب انسياقا وراء بعض المحافظين المتطرفين فى أمريكا الذين يهاجمون بروز أى شخصيات مسلمة بحجة أنهم من الإخوان. نموذج على ذلك(هوما عابدين) الذراع اليمنى لهيلارى كلينتون فى وزارة الخارجية التى أكدوا أنها إخوانية. وعندما واجهت أحد متهميها (فرانك جافني) المعروف بتزعمه لتيار قوى للإسلاموفوبيا بأنه ليس هناك دليل على اتهاماته قال: إذن علينا أن نبحث عن الدليل. لكن بعض وسائل الإعلام المصرية والعربية نقلت هذه الاتهامات جزافا دون فهم لدوافعها وبالغت فى الحديث عن التأثير الوهمى للإخوان فى إدارة أوباما، ولم يلفت نظرها مثلا أنه رفض دعوة الرئيس السابق محمد مرسى للبيت الأبيض وكثيرا ماعبرت إدارته عن اعتراضها على بعض سياساته. لكن أوباما بحكم شخصيته التى تحدثت عنها ليس لديه موقف أيديولوجى رافض للإخوان أو غيرهم رغم نفوره الشخصى من التيارات الدينية، وتعاملت إدارته معهم باعتبارهم واقعا أكدته نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية فى مصر. لكن عدم اتخاذ مواقف وسياسات واضحة فى كل هذه الأمور فتح المجال لإساءة فهمها من قبل كل الأطراف، بل وبناء حكايات وهمية بشأنها. ومع مغادرة أوباما بما له وما عليه، تغلق صفحة سيقف عندها التاريخ طويلا لرجل كان عقلانيا ومنطقيا فى تفكيره، واقعيا فى سياسته وحذرا فى قراراته. لمزيد من مقالات محمد السطوحى;