يحتفل المسيحيون فى هذا الأسبوع بعيد يسمى عيد الغطاس، وهو تذكار لنزول السيد المسيح فى نهر الأردن ليعتمد فيه تقديساً للمياه، وهذا هو ما نسميه فى الكنيسة المعمودية التى فيها نسير على نفس النهج. وفى تاريخ مصر تختلط الحضارة المصرية القديمة بحياتنا الاجتماعية لتشكل وجدان الهوية المصرية دون تفرقة سواء دينا أو حالة اجتماعية. فالأعياد المصرية القديمة كانت ولا تزال تشكل جذورا فى هويتنا ومصدر فرح ووحدة خاصة بين أبناء الوطن. وقد كان المصريون القدماء يعيشون حالة فرح دائم بفكرة الأعياد ويقول المؤرخ اليونانى «بلوترك»: «إن أعياد المصريين كانت كثيرة لدرجة أنه لم يفرق بين العيد والآخر سوى أيام معدودة. فما كان ينتهى فى مدينة حتى يبدأ فى مدينة أخرى». وقد كانت الأعياد تأخذ أشكالا مختلفة منها أعياد الانتصارات، أو عيد فيضان النيل، أو أعياد الحصاد التى كانت كثيرة، بجانب الاحتفالات التى كانت لها صبغة روحية. وكان المصريون القدماء يحتفلون بالأعياد بنفس الطريقة التى لا نزال نحتفل بها الآن، فكانوا يلبسون ثيابا جديدة ويوزعون المال على الأطفال (العيدية) ويخرجون للتنزه ويأكلون ويمرحون بالغناء والرقص. وكانت مصر كلها تعمها البهجة والفرح فى تلك الأيام. وكان النيل يمثل قيمة خاصة عند المصريين لأنه يعتبر شريان الحياة فقدسوا النيل وصاغوا حوله أساطير دينية لترسيخ فكرة روحانية مرتبطة بمياه النيل. وكانوا يصنعون عيداً كبيراً يسمى »عيد وفاء النيل« يخرج الكهنة يحملون تمثالا من الخشب لإله النيل »حابي«، وكانت الجموع تخرج إلى النيل وهم يرددون الأناشيد والترانيم الروحية فى مراكب على النيل لمشاركة الكهنة وفرعون مصر. كما كانوا يعيدون للنيل بليلة تسمى »ليلة، الدموع« وهى ليلة فيضان النيل، حيث تصوروا أنه فى تلك الليلة جلست إيزيس وهى حزينة على زوجها أوزوريس فسقطت قطرة من دموعها فى النيل فامتزجت بمائه وحدث الفيضان. وكانوا اعتادوا فى الاحتفال بالنيل أن يلقوا دمية تمثل عروس النيل وكانوا يغطسون فى النيل وهم يرددون الأغانى ويظلون فى حالة الفرح طيلة الليل. وحينما دخلت المسيحية مصر وأخذ المحتوى الروحى للمصريين عمقا جديدا بالمسيحية وأصبحت الطقوس المسيحية هى طريقة العبادة للمصريين فى تلك الأزمنة، ولكن المصريين كانوا قد اعتادوا آلاف السنين أن تمتزج أعيادهم الاجتماعية بأفكار روحية. وكانت من استنارة الكنيسة القبطية أنها لم تلغ تلك الصور الاجتماعية، ولم تنظر للحضارة المصرية القديمة بنظرة العداء، بل وجدت فى أنها تمثل حالة إشراق وارتقاء روحى تهيئ النفوس لاستقبال إشراق أعلى، فامتزجت الأعياد المصرية القديمة بصورة روحية جديدة. وكان عيد الغطاس هو نتاج هذا الامتزاج فلم تلغ الكنيسة الاحتفال بالنيل، بل كانت فى ليلة الغطاس يخرج البابا والأساقفة والكهنة والشعب وهم يحملون الشموع والفوانيس فى تلك الليلة والتى منها فى أيام الفاطميين انتقلت فكرة الفوانيس للاحتفال فى ليالى رمضان.ثم بعد تلاوة الصلوات على النيل يغطس الأقباط فى النيل ثم يخرجون فرحين ويظل هذا الاحتفال بالأغانى والأناشيد طيلة الليل. وارتبط عيد الغطاس بمظاهر أخرى للفرح وهى القصب والقلقاس. وبالرغم من أن هذا الوقت كان موافقا للاحتفال بهذه المحاصيل، إلا أنها دخلت فى نسيج العيد اجتماعيا وأصبحت من طقوس عيد الغطاس. ويقول الرحالة على بن الحسن فى كتاب »مروج الذهب« - وهو من بغداد عام (957) - حين جاء إلى مصر رأى فى ليلة عيد الغطاس »يخرج الناس إلى النيل وقد وجد أكثر من ألف مشعل وشموع وفوانيس وآلاف المسيحيين والمسلمين يخرجون من بيوتهم فى تلك الليلة ويأتون بالمشرب والملبس ويعزفون الموسيقى ويغنون وهى أحسن ليلة فى مصر لا تغلق فيها الأبواب ولا الدروب ويغطسون فى النيل«. ويقول المقريزى إن بعض الخلفاء كانوا يضيقون على المسيحيين للاحتفال بهذا العيد، ولكن الشعب كان يذهب للاحتفال مسيحيين ومسلمين رغم هذا. عزيزى القارئ هذه هى مصر التاريخ والاستنارة، فالحضارة دائما ترتقى بمشاعر الشعوب، وكلما ارتقى الإنسان حضارياً استطاع أن يتصالح مع نفسه ومع الآخرين. بتسام وتثقيف العقل وارتفاع الروح تختلف نظرة الإنسان المتحضر عن الإنسان الهمجي، فيستطيع المتحضر أن يتذوق الموسيقى والفن بكل أشكاله، ويستطيع أن ينشر الحب والسعادة، ويستطيع أن يقدم أسباب الحياة لمن حوله. وهذا ما نراه فى تراثنا القديم الحضارى من أعياد تمتزج فيها الفنون بالروحانية، ويمتزج بها الفرح بالحياة الاجتماعية، بينما الهمجى وغير التحضر هو الذى لا يشعر بوجوده إلا بالدم والكراهية، فالإنسانية تتجلى فى صور الحضارة، والوحشية تتجلى فى صور الهمجية. وكانت مصر دائما لا تعرف التفريق فى الأعياد بين مسلمين ومسيحيين، فكانت فى عيد الغطاس تعم الفرحة كل مصر وتمتلئ بيوت المصريين بالقصب والقلقاس، كما فى شم النسيم الذى كان له خلفية مصرية قديمة بطقوسه المعروفة الآن من أكل الفسيخ والملانة والخس والتنزه فى الحدائق، ولكنه أيضا أخذ طابعا روحانيا بوضعه بعد عيد القيامة، ولكن يظل الاحتفال اجتماعيا لا يخص المسيحيين فقط بل هو عيد لمصر كلها. وهذا ما يحدث أيضاً فى الأعياد الإسلامية فحين يأتى المولد النبوى وتزدان مصر كلها بعرائس المولد يذهب المسيحيون مع المسلمين لشراء الحلوى. وكما فى شهر رمضان يحدث أيضا الفرح اجتماعيا ويشارك المسيحيون حالة الفرح طيلة هذا الشهر. فالأعياد والمناسبات هى رمز الحضارة الإنسانية وعلامة مهمة لعراقة تاريخنا فجميع اعيادنا ومناسبتنا هى ثمرة لأشجار نبتت فى أرضنا المقدسة. فكما أن العائلة الواحدة تأكل فى طبق واحد هكذا كل المصريين يحتفلون بأعياد واحدة. فهويتنا المصرية هوية جامعة للحضارة والأديان، نقدم نموذجا فريدا فى عالم تمزقه الخلافات العرقية والدينية. عاشت مصر عالية بحضارتها وروحها. كاهن كنيسة المغارة الشهيرة بأبى سرجة الأثرية لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس