سألت استاذنا الدكتور فاروق الباز بعد ظهور نتيجة الانتخابات الأمريكية بأسبوع: لماذا فرحت لفوز ترامب الذى تكرهه وهزيمة هيلارى التى أعطيتها صوتك؟ فقال: لأن الدرس الذى تعلمته من الهزيمة أقوى من الغرور الذى قد يصيبنى إذا انتصر اختيارى، فالهزيمة علمتنى أن الرأى العام الأمريكى بلغ سن الرشد وقرر أن يغير بمزاجه وليس بتوجيه من وسائل الإعلام الكبرى. وأيقظت الأستاذ جميل مطر من النوم يوم الخميس الماضى لأهنئه على مقاله فى الشروق، وسألته لماذا لم تحزن على إغلاق برنامج تليفزيونى بينما حذرتَ صحافتنا أن تتعلم من الفخ الذى نصبه ترامب للصحافة الأمريكية وقلت: إنهم يقتلون الصحف؟ فكانت إجابة هذا الخبير من داخل مطبخ الصحف تختلف عن إجابة فاروق الباز التى كانت من موقع المتابع من الخارج، فماذا أجابنى جميل مطر: أسلوب إغلاق الصحف ومنابر الرأى بالحبس أو بسحب الترخيص صار موضة قديمة فى العالم المتحضر كله، لكن الجديد الآن هو التلاعب بهذه الوسائل وإلهائها وشغلها طول الوقت بالبحث عن معلومة كاذبة أو التحقق من خبر وليس صناعة حدث أو تفجير قضية، وليس صحيحا أن النتيجة جاءت بسبب أن الناخب الأمريكى قرر أن يغير ولكن الصحيح أن «المرشح» ترامب قرر أن يشغل الصحف الأمريكية بسلسلة من الأكاذيب طول الوقت ينقلون الكذب ثم يحققون فيه، فسألته كيف استطاع أن يخدع 365 صحيفة وقفت ضده فى مقابل 11 صحيفة فقط أيدته؟ فأكد: أن الصحافة الأمريكية وقعت فى الفخ إحداها خصصت 18 صحفيا للتحقق من صحة ما يدلى به من معلومات والجارديان خصصت عمودا يوميا بعنوان أكاذيب ترامب، وهذا ما تعكف الصحف الأمريكية الآن على دراسته بعد أن أفاقت من هول الصدمة ! وكيف نجح ترامب رغم الخداع؟ استطاع أن يشغلهم بتويتاته طوال الوقت لدرجة أنهم لم يكن لديهم الوقت لسؤاله عن مشروعاته الانتخابية وبرامجه ولاعن خططه ولاقراراته السياسية ولا رؤيته الاقتصادية. فما قاله جميل مطر هو الخطر، فألغاز القرارات الاقتصادية أو التموينية والأزمات الحياتية والفتاوى الدينية الغريبة التى تصدر بليل تبدو كما لو كان الهدف منها أن تجعل الناس يسهرون لمتابعة محاولات فك رموزها وغموضها بمَكلمات وصرخات مذيعى «التوك شو» وولولاتهم، لكن الأخطر منها هو التلكؤ فى تنظيم الإعلام والصحافة وتعطيل إصدار قانون حق الحصول على المعلومات.لذلك لم أتعجل القلق على وقف برنامج إبراهيم عيسى على القاهرة والناس لأنها ليست المرة الأولى التى ينتقل فيها عيسى من قناة رجل أعمال إلى قناة رجل أعمال آخر حسب العقد، وأنه حظى بشرف استضافة الرئيس السيسى مع لميس الحديدى فى أول حوار تليفزيونى وظل تصريح الرئيس بصوته دعاية مجانية لبرنامجه (25/30) لشهور طويلة، ولم يتخلف مرة عن مؤتمرات الرئيس السيسى، لكن الذى أحزننى هو عملية تدوير الصحفيين وتحول دور إبراهيم عيسى الصحفى القدير صاحب تجربة «الدستور» الصحفية العاتية المقلقة للسلطة التى تجاوز توزيعها السبعين ألف نسخة فى عهد الرئيس الأسبق مبارك، تحول الآن بعد أن باع «الدستور» إلى مذيع واعظ وخبير اقتصادى ومثمن قضائى ومصلح اجتماعى ومفتٍ ومحاضر للمشاهدين بالساعتين، وفى نفس الوقت رئيس تحرير «المقال» الجديدة التى تصارع لتتجاوز الخمسة آلاف نسخة، فخوفى على الصحافة المطبوعة وتفريغها من خبراتها وهجرة الصحفيين منها وانعدام تأثيرها ومحاصرة أدائها وقلة الانتماء اليها كمهنة آمنة لأكل العيش أهم من خوفى على يوسف الحسينى ومحمود سعد ويسرى فودة وجابر القرموطى، لأنهم ببساطة لايمثلون الصحافة المطبوعة، ولا الصحفيين بقدر ما يمثلون أحد نتائج إفقار الصحف وتحول الصحفيين فيها الى حرف أخرى، والدليل أن إبراهيم عيسى كان يستقبل (المعزين) فى برنامجه الموقوف وفى السرادق المجاور كان يستعد لاستقبال المهنئين بنجاح فيلمه الجديد مولانا، وحتى لميس الحديدى التى زأرت منذ سنوات وقالت «أنا ما بخفش» وحين هاجمتها عصابات الإخوان وهددتها ميليشيات «حازمون» بالقتل لأنها صحفية تملك قلما محترفا؛ الآن بعد وقف برنامج إبراهيم عيسى صرَّحت بأنها خائفة وتعتزم العودة إلى البيت واحتراف التريكو وأشغال الإبرة وتقطيع السلطة و«بابا غنوج». وحسب نظرية ترامب إذا أردت أن تتقى شر الصحيفة فلتشغلها بأمور غير صحفية كمطاردة «تويتات» مرشح أو ألغاز قرار وزارى أو تأمين لقمة العيش أو الطرد إلى الشارع بعد المعاش، فالصحافة لم تعد مهنة آمنة يعتمد عليها المخلصون لها، خاصة لمن جرب النجومية والمبالغ الخيالية فى الفضائيات. لا أجد عبرة ولا نموذجاً للإخلاص فى الرسالة أبلغ من درس عودة نجاة الصغيرة ب (كل الكلام) إلى الغناء، بعد استراحة دامت 16 سنة تعطفت على وجداننا الغنائى «قيثارة الشرق» نجاة وقررت أن تعود إلينا بصوتها فقط إلى حرفتها الأساسية لتضرب المثل فى احترام المهنة والتاريخ والمكانة والمفهوم الصحيح للطرب فى الوجدان العربى، ليس المهم أن يكون ثمن العودة مليون دولار فعودتها تستحق المليارات, لكن المهم أن عشاق هذا الصوت الدافئ يسترقون السمع ويلحون فى الإصغاء ولم يسألوا لماذا تعود ولكنهم يسألون: ماذا تقول نجاة؟ لمزيد من مقالات أنور عبد اللطيف;