الأهم من الحرب هو ما بعدها، و2016م للعرب ومصر هو عام للخروج من تغييب وعى سنوات ست، ومهما كانت الخسائر فهى لا تعادل قيمة الكف عن التقاتل البائس داخل عربة مسافرة للماضي. ما نحتاجه هو عقول وأفكار عميقة متجددة مواكبة للأحداث اليومية ولحركة التاريخ المتسارعة تعبر بنا نحو المستقبل، ونحتاج إلى نخب ومفكرين وفلاسفة نقديين غير عضويين وغير مرتبطين بطائفة أو جماعة، ومرتبطين فقط بمصالح الوطن وتنوير الناس بحقائق ما حدث ويحدث. تلك مهمة أبطال حقيقيين؛ أن يخرج أحدهم وسط سيطرة أصوليين حفظة نصوص يهيمنون على فضاء مجتمعى واسع ويفرضون رؤاهم المنغلقة وكأنها إلهية وليست بشرية، ويبلغ العامة بأن للدين مجاله وللعلم مجاله وأن الدين مطلق والسياسة نسبية ومصالح ووجهات نظر، فيقصفونه بفتاوى التكفير والتحريض ويضحى بحياته. تلك قصة حدثت بالفعل أحد أطرافها يوسف القرضاوى الذى احتفلت جماعته ببلوغه عامه التسعين فى مركز المؤامرات على العرب والمسلمين بتركيا، والآخر علامة سوريا والشام الشيخ محمد سعيد رمضان البوطى الذى قتله تحريض الأول على الأوطان أولًا وفتواه ثانيًا بقتل الحاكم وأعوانه ومناصريه من علماء وإعلاميين وأمنيين وعسكريين؛ والبوطى الذى لم يكن يعنيه الحاكم ولا يدافع عن كرسى رئيس أو زعيم، إنما يعنيه الوطن ومصيره استشرف ببصيرته وعقله النقدى أن تنقسم سوريا وتغرق فى بحار الفوضى والاحتراب الأهلى أو الطائفى وكرر مرارًا على مريديه وجمهوره فى الفضائيات والمساجد وحدث ما كان يخشاه ويحرص على ألا يقع، وعندما سألوه عن بكائه آخر عهدهم به قال: »شأنى كشأن رجل له أهل وأولاد يتركهم إلى حيث لا يعرف مصيرهم«، هكذا تعامل مع وطنه بعاطفة الأبوة وسلوك من يشعر بالمسئولية تجاه شعبه يخشى عليهم الفرقة والانقسام وفتاوى الكراهية والقتل، فلا يتمزق ولا يضيع. واسْتُشهد البوطى على الكرسى الذى يلقى من فوقه درسه الأسبوعى فى شمال دمشق عام 2013م، بيد أحد أعضاء واحدة من الميليشيات الموكولة بتمزيق الوطن وتقسيمه وتفتيته، فقد تمزق جسد البوطى بسكين من سعى لتمزيق سوريا، بينما القرضاوى الذى احتفلوا بعيد ميلاده التسعين بأنقرة مقيم فى الدوحة يواصل التحريض وإصدار الفتاوى التدميرية، وكارثته الكبرى هى التسبب والإسهام فى إضاعة شعوب بأكملها بفتاوى من فوق منابر المساجد وبكلمات خالية من عقلانية وفلسفة ومشاعر الحرص على مصالح الأوطان وعلى مستقبل العرب، وما فعله بليبيا وسوريا سعى ويسعى لتكراره بمصر. نحارب الفاسد والمرتشى ولصوص المال العام لكن الأخطر على الإطلاق هو من يزرع بذور الفتنة الطائفية والحروب الأهلية لفائدة مشاريع وقوى خارجية، ولن يحصل تغيير ونهضة ما دام التأويل الطائفى للدين مسيطرًا، سواء كان سنيًا أو شيعيًا، ولن تحسم معركة السياسة والتنمية والنهضة قبل حسم المعركة الفكرية بين الإسلام المستنير، وإسلام التكفير ومحاكم التفتيش. هى قضيتنا الأم لسنوات قادمة أن ينتصر الفكر التنويرى على التكفيرى ولن تمهد الأرض للتغيير، ولن يحصل المواطن على كامل مواطنته فى ظل سيطرة من يميز هذا عن ذاك بحسب درجة الإيمان، ووجود من يسعى للسلطة انطلاقًا من مذهبه وانتمائه الدينى لا من كفاءته وخبراته، والصراع الحقيقى ليس بين إسلام وعلمانية ولا بين إسلام وغرب، بل بين إسلام تنويرى وآخر تكفيرى زوره البعض، بين إسلام العصر الذهبى الذى صنع أعظم حضارة للمسلمين والعرب وإسلام عصر الانحطاط الذى تستدعيه الجماعات وزعماؤها لنظل فى تيه دائم يتقدم غيرنا ويقتل بعضنا بعضًا بناءً على فتاوى التكفير والهوية والمذهبية. مصر بطبيعتها ودورها إسبارطية محاربة وهذا قدرها، ليست هونج كونج أو سنغافورة، وكان بإمكان الرئيس عبد الناصر -كما ذكر نزار قبانى يومًا- لو أراد أن يجعلها بخمس دقائق مونت كارلو ثانية لا هم لها سوى التزلج نهارًا ولعب الروليت ليلًا، وبإمكان أى زعيم لها إذا أراد -معاذ الله- أن ينزع عنها صفة الدولة المحاربة الحامية للعرب والمنطقة ويحول المليارات التى تدفق على امتلاك قوة الردع إلى قطاع الاستهلاك فلا يضطر المواطن المصرى للشكوى من الغلاء أو الحاجة لأوقية شاى أو تلئيمة سكر أو شريحة لحم. الأولوية لدعم قيام مصر بمهمتها التاريخية فى دفاعها الدائم عن نفسها وعن العرب، وفى الدول المحاربة يأتى المقاتلون فى المرتبة الأولى ويقف الاقتصاد القومى خلفهم بكل قدراته مهما تكن التضحيات، وهناك من يغفل عن هذا كجماعة حكمت مصر لمدة عام وكمجموعات تصف وقوف الأشقاء العرب بجانب مصر بالتبرعات والمعونات، ولو شاءت لتخلت عن دورها لتعيش مرفهة فى أحضان أمريكا وتركيا وإيران وتترك العرب لينهشهم كل ناهش شَرِه، لكنها تتحمل فالكبار لا يحلمون أحلامًا صغيرة، وقدر مصر أن تعيش مناضلة ومحاربة وحامية للعرب. تحولات الأعوام الستة الخطيرة لا يمكن التغاضى عنها، لكنها فى حقيقة الأمر مخاض ولادة ليتشكل واقع عربى جديد سيسهم العرب بتعاطيهم مع الأزمات الحالية وبطبيعة أدوارهم فى صراعاتها فى رسم ملامحه إذا تداركوا وعرفوا طريقهم وأهدافهم وأعداءهم الحقيقيين. الإرهاب هو ما يهدد مستقبل الدول العربية ووحدة مجتمعاتها وفى ظل استمراره على تلك الوتيرة فان المقدر أن تتحول البلاد العربية إلى دول هامشية، يحرص الجميع على عزلها لحماية الأمن والسلم العالمي، والخطر يهدد الجميع وليس مصر فقط؛ فهو قنبلة مسمومة تهدد الاستقرار وعلاقات السنة والشيعة ومصير الأقليات، وعلاقات العالم الإسلامى بالدول الغربية والعالم. الدرس المصرى الأول للعالم هو وجوب تعزيز دعائم الدولة الوطنية من منطلق كونها الوحيدة القادرة على احتواء التنوعات الطائفية والإثنية تحت عنوان المساواة والمواطنة، وعدم السماح باختراقها أو استهدافها بمشاريع أيدلوجية أو مذهبية أحادية من شأنها تفجير كيان الدولة ومحو هويتها وتفتيتها إلى كيانات متصارعة، فى ظل ازدهار للنزعات الانفصالية للأقليات وتدعيمها من قوى خارجية. بجانب الاعتصام بالعروبة وبالانتماء العربى والتحرك فى مساحات علاقاتنا الإقليمية والدولية من منطلق الانتماء العربي؛ فهو «الجسم حيث الأبعاد هى الأطراف، وهو الوجه وهى الوجهة، وهو الهوية وهى هوائيات الإرسال والاستقبال، والعروبة وجود ولكن الأبعاد توجهه، وإن كانت الأبعاد هى اتجاهات البوصلة فان الأساس العربى هو جسم البوصلة ذاته، وفى كل الحالات فان العروبة وحدها هى دائرة الانتماء وكل ما عداها فدوائر علاقات». ومهما حدث من خلافات أو تباين وجهات نظر فلن يستغنى العرب عن مصر ولن تستغنى مصر عن أشقائها العرب. لمزيد من مقالات هشام النجار;