تعددت الكتابات التى تبدو وكأنها تكثفت ثم هطلت فجأة متذكرة وجود أزمة فى مجال الصحافة الورقية، كتابات بعضها يستند الى الحاح فكرة مسيطرة أثارت هلعا ما أو بفعل قراءة سريعة أو ربما أيضا رغبة فى التنبيه، تتخوف من اندثار الصحافة الورقية وترجع أزمتها لعامل ارتفاع مدخلات الصناعة من ورق وأحبار وتأثير ذلك المتوقع على ارتفاع سعر نسخة الصحيفة، وما تتوقعه تلك الكتابات من تأثيرات تالية يتمثل أبرزها فى انخفاض كبير فى معدلات الإقبال على الصحف الورقية.. اليوم تترى مقولة متحسرة بل ومتألمة تخشى انهيار صناعة الصحف الورقية ومهنتها، ومتجاهلة أن المطبوع من الصحف ينخفض كظاهرة كونية، وأنه يحدث ومازال كل يوم فى العالم ولدينا ايضا، وأنه ومع كل عام يزداد فيه عدد السكان صاحبة انخفاض فى عدد النسخ المباعة من الصحف الورقية، وأنه أيضاً مع كل صباح تزداد غربة وانفصال القارئ «الجديد» عن الصحف الورقية، لكنه لا يخاصم أبداً مهنة الصحافة ولم يجد بديلا عنها، هو فقط يذهب الى «صحافة» عصره، يذهب نحو وسائط جديدة ومستقبلية تنمو معه، تشبهة وتعمل وفق مجريات زمنه، ولن يجدى هنا التوقف عند حديث البعض أو نوستالجيا الكلام عن «جماليات» ارتباط القارئ بالورق ورائحته فى فعل شيء مهم. كانت بعض الصحف اليومية فى السبعينيات والثمانينات من القرن الماضى تنشر فخرا وزهوا على صفحتها الأولى تقريرا موثقا بأن نسخها المباعة تعدت المليون نسخة أو أقل قليلا، هل تلاحظ مثلا أن أحدا لايعلن الآن ومنذ سنوات امتدت عن عدد ما يباع من نسخ؟، ويحدث ذلك الانخفاض رغم كل تلك الزيادة المهولة فى عدد السكان التى يمكنك تتبع دهشة تواليها وانت فى طريقك حين يمهلك زحام الشارع وقتا لتقرأ لافتة اليكترونية مضيئة تعلن زيادة اعداد المواليد. سيطرح البعض أن الصحف كانت تحتل مساحة اعلامية هائلة ولم تكن صناعة الفضائيات وواقع الإنترنت قد فرض نفسه، هنا يجب القول إن أكثر من استفاد ومنحته شبكة الإنترنت رئة حياة جديدة هى الصحافة، والصحافة تحديداً، مكنتها من الوجود والبث الفورى ومتابعة النشر وبناء رابطة مستدامة مع القارئ لم توجد من قبل، وتوظيف مقاطع الفيديو والصوت وأنه بفضل ذلك ظلت الصحافة مجال المتابعة الإعلامى الأكبر من بين مختلف وسائل الإعلام، وبقيت تحتفظ بالمساحة الأكبر لنشر ومتابعة الأحداث وربط القارئ بها، فقط لم نستوعب بعد أن الصحافة مهنة وليست ورقا أو ليست ورقا فقط، وأن حالة القراءة والمتابعة هى حالة صحفية مشتركة بين المطبوع والاليكترونى كلاهما عضو فى جسد واحد، ويصدران تحت نفس العنوان ومن مؤسسات صحفية واحدة.. هل مازال هناك جدوى لحديث بكائى عن «اندثار الصحافة»؟ يبدو مهما التأكيد أن الصحافة المعاصرة عادت من جديد تصنع وتتصدر حالة السبق الصحفي، وترسخ جدارتها كمهنة لصناعة الأخبار والسبق فيها وصار ذلك وظيفة أولى واكثر طلبا منحتها اياها هبة الوجود على شبكة الإنترنت، بحيث تمكنت الصحف من جديد من أن تعيد تجسير صلتها بالقارئ كل وقت، حتى صارت البوابات الصحفية الخبرية مراكز الاهتمام والمتابعة بما يفوق بعض الشاشات، هل تكون مهنة الصحافة هكذا فى طريق الكسب أم فى مجال نعى الخسارة كما يرى البعض؟ مهنة الصحافة تتطور بفعل تطور تقنى هائل، جعل مثلا من قراء ومشتركى صحيفة النيويورك تايمز يزيدون بشكل هائل ويتم تعويض انحفاض المطبوع بالاشتراك المدفوع فى الاليكتروني، ويشكل هذا الجمهور الجديد شرائح إعلانية تضيف موارد،إليست هى ذاتها الصحيفة ؟!لاشيء تغير إذن. علينا أن نرى المهنة تتطور ونشجع تلك المبادرات، لأنه وفى مصر فإنه بفعل نمو أجيال جديدة نشأت ونمت على ارتباط بشاشة الكمبيوتر ثم شاشة الموبايل، سيمثل هؤلاء حتما وهم يفعلون الآن جزئيا جيل القراء الأكبر القادم، أجيال كثيرة قادمة تنمو وتنمو معهم ثقافة القراءة الاليكترونية، وهكذا تبدو الإشكالية الحقيقية فى النظر للصحيفة الورقية بمعزل عن وجودها على شبكة الإنترنت وغياب ضرورة أن تكون عملية الحساب الموضوعية لعدد القراء هى بالجمع بين كل من قراء النسخ الورقية ومن يتصفحون بوابة أو موقع الصحيفة الإليكترونية، كل هؤلاء يشكلون جمهور قراء الصحيفة، وهم كثر لو تعلمون. قراء الصحف قطعا يزدادون لكن أنماط حسابهم وأنماط استيعابهم اقتصاديا فى صناعة الصحافة المصرية محدودة فى سقف إبداعها، حيث لم تستطع الصحف المصرية أن تؤسس بشمول لآليات توظيف حجم القراءة الاليكترونية النامى والكبير لمحتواها، من خلال العمل والانشغال المهم بآليات لحسابه وتقديره والعمل عليه تسويقيا من أجل تعظيم الاستفادة منه على مستوى إيجاد مدخلات مباشرة، وعلى مستوى توظيف ذلك إعلانيا. نطرح فى هذا الصدد أن التعارض بين الورقى والإليكترونى فى مجال صناعة الصحافة يحتاج الى نقاش مهنى لفض تعارضاته المصطنعة، وحتى لانكون فى مجال تفكيك نظرى نسعي لهذا التعارض يجدر أن نعسى الى بناء مقترحات، وهنا نرى أنه من المهم البدء بتأسيس آلية جديدة لحساب عدد قراء الصحف لاتتوقف عند مجرد أرقام التوزيع الورقى متجاهلة البوابات والمواقع المرتبطة بها. وبالتالى لابد من أن تسعى الصحف معا نحو تأسيس هيئات موثوق فى مصداقيتها البحثية واستقلالها، تقنن آلية قياس مستجدة لحساب عدد قراء الصحف فى مصر من خلال وسائل منتظمة لحساب المترددين على مختلف بوابات الصحف وإدخالهم ضمن شرائح عدد القراء لكل صحيفة. وربما نقول أنه حان وقت أن يجتمع مختلف أطراف صناعة الصحف فى مصر بمشاركة هيئات ومؤسسات وخبراء ولدراسة مقترح أولى نقدمه يخص المشاركة فى تجربة جماعية لفتح الاشتراكات فى مجال قراءة مواقع وبوابات الصحف الاليكترونية، بسعر محدود وأولى قابل للتقويم والدراسة، وليكون ذلك تحولا نوعيا فى الصناعة يحول بينها وبين أن تواصل أزماتها الاقتصادية. لمزيد من مقالات د. هشام عطية عبدالمقصود