العلوم الإنسانية والطبيعية هى أساس بناء الجامعة، فالإنسانية كالفلسفة واللغات والتاريخ والجغرافيا وغيرها تدرسها كلية الآداب، أما الطبيعية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا بفروعها المختلفة إلى جانب علوم الأرض «الجيولوجيا» والفلك وغيرها مما استحدث من تخصصات جديدة تنطوى تحت مظلة كلية العلوم، ومنذ نشأة الجامعات الحديثة كانت كليتا الآداب والعلوم هما أساس بناء الجامعة من حيث الهيكل، أما من ناحية المضمون فقوة الجامعة تتوقف إلى حد كبير على البناء العلمى لأقسام العلوم الأساسية التى تنشأ فيها المدارس العلمية والفكرية التى هى أساس البناء العلمى للجامعة.. ولكن ما حدث هو اهمال العلوم الأساسية خاصة الطبيعية والتطبيقية، حيث نجد أن المسئولين عن التعليم الجامعى نظروا إلى هذه التخصصات المهمة جدا نظرة دونية، ووضعوا معظم هذه التخصصات فى جزر منفصلة وكأنها لا يخدم بعضها بعضا ولا تكامل بينها، فمن أهم خصائص الجامعة أنها توصف بأن العلم فيها وحدة واحدة لا يقسم إلى أجزاء صغيرة تفصل بينها الحواجز الضيقة، وفكرة وحدة المعرفة قديمة نشأت مع بزوغ الحضارة الإنسانية، فنجد الفيلسوف الإغريقى أفلاطون الذى تتلمذ على أيدى العلماء المصريين لأكثر من عشرين عاما بعدها عاد إلى بلده اليونان وفتح أكاديمية ليعلم أبناء جلدته ما تعلمه فى مصر، وكتب على بابها «من لا يعرف الهندسة لا يدخل علينا»، وتجد أحد الفلاسفة المسلمين بعده بأكثر من ألف عام يقول «من لم يدرس الكيمياء ليس فيلسوفا»، فمن المعروف أن الفلاسفة الأوائل أضافوا الكثير إلى العلوم الطبيعية لتعمقهم فى العلوم الإنسانية، وكانت هذه هى نظرة رواد الفكر العالمى لوحدة العلوم والمعرفة، وعلى النقيض من ذلك نجد الجامعيين المصريين فى العقود الأخيرة يعملون على تمزيق وحدة العلم بين الكليات المختلفة، حيث ذهب كل بما يعتقد أنه يخصه، يحكمهم فى ذلك مبدأ التعصب المهني، ولتوضيح ذلك وعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أن كليات الطب قد استقلت بتخصصين مهمين هما الكيمياء الحيوية والميكروبيولوجي، ويحتاج كل منهما إلى قاعدة من العلوم الأساسية خاصة علمى الكيمياء والبيولوجيا بكل فروعهما إلى جانب الرياضيات، وكلها ليست لها أقسام فى كليات الطب ولا تدرس بها، والغريب فى الأمر أنه فى إعلانات كليات الطب لتعيين معيدين لأقسام الكيمياء الحيوية والميكروبيولوجى يشترط أن يكون المتقدم حاصلا على بكالوريوس طب وجراحة، ويتم رفض الحاصل على بكالوريوس كيمياء حيوية أو ميكروبيولوجى من كلية العلوم، ولا يعقل ذلك. وإذا استعرضنا ما يحدث فى باقى كليات الجامعة التى تعتمد الدراسة بها إلى حد كبير على العلوم الأساسية الطبيعية كالزراعة والصيدلة والطب البيطرى والتربية، نجد الشيء نفسه من العبث والنظرة الدونية للعلوم الأساسية حتى وصل الأمر إلى أن جامعة عين شمس وافقت فى ثمانينيات القرن الماضى على أن تمنح كلية التربية بها درجة الدكتوراة فى العلوم الأساسية، وأطلق على إحداها «دكتوراه كيمياء المعلم»، ويدل كل ذلك على أننا ننظر للعلوم الأساسية نظرة دونية، وحقيقة الأمر أنه بدون العلوم الأساسية الطبيعية وتكاملها يصبح بناء خريجى كليات الهندسة والطب والزراعة والصيدلة وغيرها بناء هشا لقوة ارتباط هذه التخصصات بالعلوم الأساسية، كما أن التقدم التكنولوجى الذى نسعى جاهدين إلى تحقيقه، لا يمكن أن يتم دون الاهتمام بالعلوم الأساسية وإجادتها، وقد وعى علماء مصر أهمية الربط بين العلوم والتكنولوجيا فأنشأوا فى منتصف القرن العشرين المركز القومى للبحوث للربط بين العلم والتكنولوجيا، كما أننا نجد من خططوا لإنشاء جامعة أسيوط فى بداية النصف الثانى من القرن العشرين قد حاولوا مواجهة هذه المشكلة فى بدايتها، فأقيمت جامعة أسيوط على مبدأ جامعة القسم الواحد، ونرجو أن تكون مستمرة حتى الآن على هذا المبدأ، لأنه العلاج الأمثل لفوضى تدريس العلوم الأساسية فى جامعاتنا، وحتى تكون بها جودة حقيقية لا جودة ورقية، ولتوضيح ذلك وعلى سبيل المثال يقوم قسم الكيمياء بكلية العلوم بتدريس الكيمياء لكل طلاب الجامعة، ونتيجة إهمال الجامعات الحكومية العلوم الأساسية، فإننا نجد أن بعض الجامعات الخاصة التى أنشئت حديثا لا توجد بها أقسام علوم أساسية مما ينفى عنها مفهوم الجامعة، ونظرا لضعف مستوى بعض هذه الجامعات لجأت بعض النقابات لإجراء اختبار للخريجين المتقدمين إليها من هذه الجامعات لعدم ثقتهم فى مستواهم العلمى والمهني، ولهم كل الحق فى ذلك. ولا نعفى مسئولية أساتذة كلية العلوم عن هذا التردى لإهمالهم الدروس العملية التى هى عماد الدراسة بكلية العلوم.. وأننى أوجه صرخة إلى المسئولين سواء على مستوى الجامعات أو الدولة الذين يتحدثون عن التقدم التكنولوجى وأهمية البحث العلمى لتقدم الدولة، وعليهم إذا كانوا جادين فى ذلك أن يعطوا اهتماما خاصا لكليات العلوم.. ويبقى سؤال أخير: لماذا يتم قبول أعداد كبيرة بكليات العلوم تفوق إمكاناتها بكثير مما تسبب فى ضعف مستوى الخريجين؟. د.أحمد دويدار البسيوني رئيس جامعة قناة السويس الأسبق