لايكاد قارئ لشعر صلاح عبد الصبور يقرأ قصيدة من قصائده إلا ويجد دوال الحزن بارزة وملحة بشكل لافت، يكفى أن نشير إلى ديوانه الأول «الناس فى بلادى»؛ حيث نجد قصائد تشير إلى الحزن، أولاها قصيدة «رحلة فى الليل»، وهى القصيدة التى نقرأ فيها: معذرة صديقتي: حكايتى حزينة الختام/ لأننى حزين ثم نجد فى هذا الديوان قصيدة أخرى بعنوان «الحزن»، والقصيدة بأكملها موضوعها الحزن، وتبدأ على النحو التالى: يا صاحبى إنى حزين/ طلع الصباح فما ابتسمت ولم ينر وجهى الصباح وتمضى القصيدة - التى سبق أن أشرت إليها فى كتابى «رؤى العالم» (2008)- إلى أن تأخذ فى الحديث عن الحزن تخصيصا؛ حيث تصل الحزن بالليل، فنقرأ: فى غرفتى دلف المساء/ والحزن يولد فى المساء لأنه حزن ضرير/ حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم/ حزن صموت/ والصمت لايعنى الرضاء بأن أمنية تموت/ وبأن أياما تفوت/ وبأن مرفقنا وهن/ وبأن ريحا من عفن/ مس الحياة فأصبحت وجميع ما فيها مقيت وربما كان أهم ما فى الأبيات - فضلا عن دلالات الحزن - أنها تجسد الأمور المعنوية فى تشبيهات مادية تقرن الحزن بالظلم؛ لأنه حزن أعمى لايتعمد أن يصيب كائنا بعينه، أويتوجه إلى هدف بذاته، ونمضى مع التجسيد المعنوى من خلال التشبيهات البليغة، فنرى الحزن طويلا كالطريق من الجحيم إلى الجحيم، ونراه حزنا صموتا، يقترن بإحباط الأمنيات وإحباط الحياة نفسها كى تغدو حضورا موجعا يتحول كل ما فيه إلى أشياء مقيتة. وهكذا ننتقل إلى المقطع الثانى الذييقول: حزن تمدد فى المدينة/ كاللص فى جوف السكينة/ كالأفعوان بلا فحيح/ الحزن قد قهر القلاع جميعها وسبى الكنوز/ وأقام حكاما طغاة/ الحزن قد سمل العيون/ الحزن قد عقد الجباه/ يقيم حكاما طغاه وإذا تأملنا هذا المقطع فى علاقته بالمقطع السابق وجدنا الوجه الأول من أوجه الحزن،وهو الوجه السياسي،فهذا الحزن الذييتجسد كاللص أو كالأفعوان سرعان مايتبدى كائنا كلى القدرة، فيقيم حكاما طغاة. وما إنيرتبط جوهريا بالتسبب فى إقامة الطغيان ونشره على الأرض، فإنه يبين عن السبب الاجتماعى السياسى الذى يربط الحزن بشيوع الظلم فى العالم أو بما صاغه بعد ذلك بقوله - فى مأساة الحلاج- «الشر استولى فى ملكوت الله»، فالحزن هو الذى يقيم الحكام الطغاة،وحضور الحكام الطغاة هو الذييُسمل العيون،ويتعمد خزق العيون كييعميها حتى لا ترى ما حولها،فتصبح أعينا ضريرةغارقة فى ظلمة الليل القاتم الذييحيط بالعالم. ويلفت الانتباه فى الأبيات بعد ذلك تركيزها على التشبيه بوصفه أداة بلاغية للبناء،وذلك على نحو صريح فى الأسطر الأولى التى تعقد شبها بين الحزن واللصوص أو الحزن والأفعوان،ولكن الأبيات سرعان ما تولد الاستعارة من داخل التشبيه،فيتحول الحزن إلى كائن يُسمل العيون أويعقد الجباه أويقيم حكاما طغاة. الطريف أن القصيدة تصف بعد ذلك حوارا بين صديقين؛ أحدهما بالغالتفاؤل على الطريقة الماركسية التقليدية، فيقول: سنعيش رغم الحزن، نقهره ونصنع فى الصباح/ أفراحنا البيضاء، أفراح الذين لهم صباح ولكن نبرة التفاؤل الساذجة هذه لا تقنع الشاعر الذى اخترق الحزن كل شيء فيه، وأصبح يجرى من حضوره مجرى الدم فى العروق،فينظر إلى صاحبه قائلا: زوِّقْحديثك؛ كل شيء قد خلا من كل ذوق/ أما أنا فلقد عرفت نهاية الحدر العميق/ الحزن يفترش الطريق. وهكذا ننتقل إلى الديوان الثاني، وهو «أقول لكم»، حيث تقابلنا أول قصيدة فى الديوان بعنوان: «الشىء الحزين», فنقرأ: هناك شىء فى نفوسنا حزينْ/ قدْيختفى، ولايبينْ/ لكنه مكنونْ/ شىء غريب.. غامض.. حنون هذا الشىء الحزين الذي يختفى فى نفوسنا هو مايمكن أن يكون تذكارا لحادثة مؤلمة قاربت على أن تمحى من الذاكرة أو قد تكون لحظة ندم أو لحظة أسى. المهم أن هذا الشىء الحزين يستيقظ فى أواخر المساء، ويرتمى على شوارع المدينة، كى يهدم معابر السرور أو الفرح. لكنه يظل كطائر البحر يظهر أويغيب بلا سبب واضح جليّ، غير أنه فى كل الأحوال يرتبط بنوع غامض من الإحباط. وقديكون هذا النوع من الإحباط استمرارا للوجه السياسى الاجتماعى الذى افتتحت به كلامى عن أوجه الحزن. لكن عندما نمضى فى ديوانه «أقول لكم»، سنجد قصيدة أخرى بعنوان «كلمات لا تعرف السعادة»، وهى قصيدة تبدو كأنها استمرار لمجرى الدلالات التى تنطوى عليها قصيدة «الشىء الحزين»، لكنها ترتفع بدرجة الإيقاع فى نبرة الحزن على نحويلفت الانتباه، خصوصا حين نقترب من نهاية القصيدة، فنقرأ: لكنا حين ضحكنا أمس مساءْ/ رنَّت فى ذيل الضحكات/نبرات بكاءْ/ واتكأت فى عينيَّ دُميعات/ أغفت زمنا فى استحياء/ كانت عيناك تقولان لقلبى ولعينيه/ الجرح هنا، لكنى أخفيه/وأداريه! هكذا يرتفع الحزن الغامض من أغوار النفس إلى حركات اللسان، فيتضح فى استحياء كى يكشف عن جرح فى القلب، لم يندمل بعد، فهو جرح لايزال نديا، باقيا ألمه الذي يقترن بأشباح الماضى التى «تُجَهْنِمها الغيرة»، فلا تملك النفس إزاءها النسيان. هنا نجد وجها آخر للحزن يمكن أن نسميه الحزن الذاتى أو الشخصى، وهو مرتبط بعالم الشاعر نفسه وحياته التى انطوت على مأساة فشل فادح فى العلاقة مع المرأة، وأدت إلى فشل زواجه الأول الذى انتهى بالطلاق من زوجه الأولى (ن-ى) التى أهداها فيما بعد عددًا من قصائد «أحلام الفارس القديم». وهكذا ننتقل إلى ديوان «أحلام الفارس القديم»، ذلك الفارس الذى يغزو الحزن عالمه ويملأ الحزن قلبه، فيكتب قصيدته «أغنية للشتاء» التى نقرأ فيها: ينبئنى شتاء هذا العام أننى أموت وحدي/ ذات شتاء مثله، ذات شتاءْ/ ينبئنى هذا المساء أننى أموت وحدي!/ ذات مساء مثله، ذات مساءْ/ وأن أعوامى التى مضت كانت هباءْ/ وأننى أقيم فى العراءْ/ ينبئنى شتاء هذا العام أن داخلي/ مرتجِفٌ بردًا/ وأن قلبى ميت منذ الخريف .../ قد ذوى حين ذوتْ/ أول أوراق الشجرْ/ ثم هوى حين هوتْ/أول قطرة من المطرْ/ وأن كل ليلة باردة تزيده بعدًا/ فى باطن الحجرْ!! هذه النغمة الحزينة المقترنة بالليل،هى امتداد لهذا الشعور بالحزن الذى يقترن بالتذكار أو تذكار فقد الحبيب الذى قابلناه فى قصيدة «الشيء الحزين»، ثم نصل إلى قصيدة «أغنية للقاهرة» التي يختتمها بقوله: أهواك يا مدينتى ...../ أهواك رغم أننى أُنْكِرْتُ فى رحابك/ وأن طيريَ الأليف طار عني/ وأننى أعود، لا مأوى ولا ملتجأ/ أعود كى أشرد فى أبوابك/ أعود كى أشرب من عذابك والشاعر واضح فى هذا المقطع الذى يغنى فيه لمدينته القاهرة، فتشير أبيات المقطع إلى إنكار الآخرين له أو تنكرهم على السواء، المرادف لانقلابهم عليه، والإشارة هنا إشارة إلى الحملة التى لقيها من نقاد الماركسية الذين هللوا له واحتفوا احتفاء بالغا بصدور ديوانه «الناس فى بلادى»، ولكنهم عادوا وانقلبوا عليه عندما أصدر ديوانه «أقول لكم»، فاتهموه بالخيانة والتخلى عن النضال من أجل الفقراء، والنكوص عما وعد به من دفاع عن أحلام البوليتاريات، فهاجموه هجوما ساحقا، واتهموه بإشاعة الحزن واليأس فى نفوس الناس، وهو الأمر الذى ترك فى داخله جرحا لم يندمل قط. أما الإشارة الثانية فهى موازية للإشارة الأولى على السواء، فهى إشارة إلى طيره الأليف الذى طار عنه، والذى تركه فى نوع من الغدر، ومن ثم فها هويعود إلى القاهرة وحيدا بلا حبيبة أو رفاق قدامي. أعنى يعود وحيدا متوحدا حالما بأن تحدث المعجزة التى تجمع ما طار شتاتا من كيانه، وأن تحتضنه القاهرة أويحتويه نيلها، فيعيد إليه النيل الحياة. فإذا انتقلنا من «أغنية للقاهرة» إلى «أغنية إلى الله»، وهى ختام الكراسة الأولى التييطلق عليها صلاح عبد الصبور عنوان «من أناشيد القرار» - ويهديها إلى «ن- ى» سنجد أن «أغنية إلى الله» تعيدنا للحزن مرة أخري، فنجد الحزن يفترش مقطعها الثالث على النحو التالي: حزنى ثقيل فادح هذا المساءْ/ كأنه عذاب مُصْفَدين فى السعير/ حزنيغريب الأبوين/ لأنه تَكَوَّن ابن لحظة مفاجئة/ ما مخضته بطن/ أراه فجأة إذ ايمتد وسط ضحكتى/ مُكتمل الخلقة، موفور البدنْ/ كأنه استيقظ من تحت الركام/ بعد سبات فى الدهورْ! وهكذا نعود إلى الصور التشبيهية, التى سرعان ما تتضافر والصور الاستعارية, كى يتجسد المعنوى فى هيئات وتحولات حسية، وهكذا نرى الحزن الثقيل الفادح يبدأ كأنه عذاب مقيدين فى الجحيم، وهو حزن نغل غريب الأبوين، غير إنسيّ لأنه لم تلده بطن، فهو ينطلق كالجنى من فوهة القمقم، مكتمل الخلقة, ولأنه كالجنى المحبوس فى قارورة مسحورة عبر قرون، ينتظر أن ينفتح القمقم بعد سبات يطول عبر الدهور المتعاقبة إلى أن ينفتح، فيخرج حضورا طاغيا مزاحما الهواء كالحضور المرعب. لمزيد من مقالات جابر عصفور