فى نوفمبر عام 2016 هدد الرئيس التركى " رجب أردوغان"، دول الاتحاد الأوروبى بفتح الباب أمام الهجرة غير الشرعية إلى أراضيها ، فى حال قيام الاتحاد بما يدفع تركيا إلى ذلك، وجاءت تلك التصريحات بعد يوم واحد من تصويت البرلمان الأوروبى على قرار تجميد مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، خاصة أنه قد مر سبعة عشر عامًا على الاعتراف بها كمرشح للعضوية الكاملة. ترى أى أسباب تلك التى سمحت بطرح دلالات ذلك التهديد التركى على المستويين العربى والأوروبي، ترى هل استبعاد انضمامها وإهمال طلبها وتغييبه طوال هذه المدة؛ لذا فإن تركيا تحاول استنهاض مشروع انضمامها، بأن تؤسس استعادته بمواقف تشكل جنوحًا عن النظام الدولي، بتجاوز قواعده ومعاييره وقيمه، أم أنها تعانى إشكالية فقدان الاتجاه؟ إن التهديد التركى يعنى استخدام البشر كحراب وفزاعات، وتحديدًا العرب الذين يعانون التمزق، والتفتيت، والشتات، وعذابات بؤس الاحتلال الجزئى لأوطانهم، واشتداد أعاصير سلب كياناتهم وإذلالهم، وتتبدى تركيا جلادًا يدفعهم إلى اجتياح دول أوروبا. ترى لمصلحة من يجرى اقتلاع بعض البلاد العربية وتفريغها من مواطنيها فى موجات من النزوح الجماعي، لاستمرار الحرب المعلنة أو المموهة؟ وأى مستقبل لتركيا فى علاقاتها مع البلاد العربية والاتحاد الأوروبي؟ ويتمفصل مع ذلك الموقف فى التنافر والتضاد، ما حدث فى يونيو عام 2013، عندما وجه الاتحاد الأوروبى انتقادات إلى تركيا، بشأن ممارسات القمع فى ساحة "تقسيم"، ضد المتظاهرين من المعترضين على الحكومة، فإذا برئيس الحكومة آنذاك السيد "أردوغان"، يوجه حديثًا إلى النواب الأوروبيين بقوله: من تحسبون أنفسكم؟ أى جرأة حملتكم على اتخاذ هذا القرار؟ أما وزير الشئون الأوروبية فقد أوضح لكاثرين آشتون أن "تركيا هى البلد الأقوى والأكثر التزامًا بالإصلاح فى أوروبا"، لا شك أن ثمة هدفًا مزدوجًا فى تلك الانتقادات لتركيا، فهي- من جانب- تتبدى كأنها فى سياق ممارسة الاتحاد لدوره المعيارى الملتزم به دوليًا، ومن جانب آخر فإنها تنفى عن تركيا ديمقراطيتها، وهو ما يقيم حواجز المغالقة لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. لعبت ثنائية التحديات الداخلية والرهانات الخارجية دورًا بارزًا فى سياسات تركيا، ولأن الأحداث والوقائع التى ترتبط بتلك السياسات، ليست شيئًا فى ذاتها إن لم تكن أدلة على ما سوف يحدث، وما يقف خلف تلك السياسات من أفكار، انطلاقا من أن ذلك الإدراك يشكل أوضح صيغة لفعالية حماية المصالح، التى لا يحكمها حد الاستحقاق فحسب؛ بل الاعتراف بذلك الاستحقاق من الآخر؛ لذا فإن "كاتى بيري"-عضو البرلمان الأوروبي- فى نوفمبر 2016، فى حديث يطرح أسباب صدور ذلك القرار، قد كشفت القلق الذى ظل يساور البرلمان ثلاث سنوات مما يحدث فى تركيا، حيث اتسعت فى يوليو الماضى الممارسات المستباحة والأكثر سوءًا، والمفتوحة على التعديات والتجاوزات الموجهة إلى الحريات الإعلامية، وحقوق الإنسان، وحقوق الأقليات، كما أوضحت أيضًا "كاتى بيري" أن البرلمان الأوروبى لا يفرض قطيعة فى علاقته بتركيا، إذ هو لا يدعو إلى عدم إبرام اتفاقيات مع تركيا بشأن الطاقة، والشئون الخارجية، وإيقاف توافد اللاجئين، ومساعدة الدولة التركية على رعاية ثلاثة ملايين لاجئ، والسماح لهم بدخول الاتحاد الأوروبى دخولاً شرعيًا، ثم راحت عضو البرلمان تقرع جرس الإنذار الذى يفرض الفهم، بأنه بالنسبة إلى بلد مرشح لعضوية الاتحاد، فثمة شروط ومعايير واضحة، حيث يقيم الانضمام وفقًا لهذه المعايير، وقد أزاحت «كاتى بيري» الغطاء لتكشف عن أن البلد المرشح لعضوية الاتحاد، والمختلف مع معاييره تناقضًا وسلبًا فى ممارساته، كيف للأعضاء أن يمنحوه أصواتهم، وهناك ممارسات تنتزع من مشروعيته، منها سجن مائة وخمسة وأربعين من الصحفيين، وأيضًا طرد عشرة آلاف شخص من أعمالهم؟ لم تستوف تركيا إذن شروط كوبنهاجن ومعاييرها السياسية والاقتصادية التى تؤهلها لعضوية الاتحاد الأوروبي؛ لذا فقد خسرت بذلك رهانها الخارجى فى استحقاق عضوية الاتحاد الأوربي، ويبرز عندئذ التحدى الداخلى الذى يتمثل فى تجمع تيار اتجاهات الرافضين لعضوية تركيا بالاتحاد الأوروبي، حيث يضم خطابات متعددة، منها من يتهم حزب العدالة والتنمية بأن إصراره على الانضمام، إنما يعكس رغبته فى إضعاف سلطة المؤسسة العسكرية، وتيار يرى فى عضوية الاتحاد انتحارًا للدولة القومية، وأيضًا من يرى أنها دلالة انقياد تركيا للسياسات لأمريكية، وثمة تيار يعتقد أن التحاق تركيا بالاتحاد يعنى القضاء على هويتها الإسلامية، وفصلها عن جذورها التاريخية، وعزلها عن محيطها الإسلامي، وأيضًا تيار يؤكد أن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى وهم وخيال، لا يمكن أن تسمح به البلاد الأوروبية. قبل أن تعلن تركيا رغبتها فى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى كان أمامها خياران، الأول هو التوجه إلى الأمة التركية، تمفصلا مع أقرانها بمراكز الشعب التركى فى آسيا الوسطي، والخيار الثانى الانضمام إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، لكنها فضلت الاتحاد الأوروبى وهى تعلم أن ثمة معايير سياسية واقتصادية واجتماعية، تشكل نوعًا من الهيمنة على أعضائه، لكنها كانت تسعى ألا تقمع تلك الهيمنة أو تمتص أهدافها أو تبددها، إذ التميز الذى تعيشه أوروبا ليس حكم قيمة؛ لكنه معيار وجود، أى الوضع الذى سوف توجد به تركيا حال انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، سوف يجعلها تنجح فى أن تبدل هيكلة وضعها بوصفها دولة تنتمى إلى "الدول الطرفية" ليصبح انتماؤها إلى "الدول المركزية". لكن على الجانب الآخر كان الاتحاد الأوروبى يجرى الدراسات المتعمقة التى تبحث عن المخاوف والتهديدات المرشحة أن تصبح داخله حال انضمامها، فتفقده كيانه، أو تؤثر بالسلب فى أعضائه. لقد استراب الاتحاد الأوروبى من انضمام تركيا، وتعددت وانتشرت تخوفاته؛ لذا راح يشهر كل الدفاعات عن خصوصياته التى يمتلكها أفراده وجماعاته، منها- على سبيل المثال- أن تعداد المواطنين الأتراك، الذى يصل إلى سبعين مليون نسمة، يشكل تخوفًا من السيطرة على سوق العمالة، وأيضًا يؤدى إلى الاستباحة القسرية لمعادلات تعداد السكان فى البلاد الأوروبية، وهناك تخوف يرى دورًا مناقضًا يمكن أن تقوم به تركيا، عندما تشغل مركزًا قياديًا داخل الاتحاد بوصفها دولة إسلامية، إذ ستغدو مرجعًا لجميع المسلمين بالاتحاد؛ حيث ستتبنى مطالبهم، ويصبحون بدورهم قوة دعم لها. ترى هل اندفاعات "أردوغان" الاعتراضية المتلاحقة، وجنوحها المضاد لتجميد العضوية، ستقلب استراتيجية موازين القوى بالاتحاد الأوروبي، وأن الهجرات غير الشرعية ستغتال مسار إنجازاته كافة؟ أم أنه كلام كحرث البحر؟ لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى