كنت أتمنى وقد أصبحت قضية «تيران وصنافير» أمام القضاء أن نترك الأمر كله لعدالة نظامنا القضائى حيث يوجد حكم القانون والدستور، والأهم ساحة للتداول وعرض الآراء المختلفة، والحجج، والوثائق، التى تبحث فى مدى سلامة القضية وعرضها منذ البداية. وحتى إذا كان الحكم القضائى سوف يحكم لوجهة نظر الحكومة بعدم الاختصاص فإن أمام الجمع المصرى كله ساحة أخرى أكثر اتساعا وهى ساحة مجلس النواب بلجانه المعنية المختلفة، لكى تكون هناك جلسات استماع مطولة للخبراء والسياسيين من الداخل والخارج، وتحقيق ومراجعة لكافة وجهات النظر، وجميع الحجج والحجج المضادة، وكذلك الوثائق وحجيتها فى هذه القضية الهامة، والتى سوف يكون لها دورها المؤثر فى قضايا مصرية أخرى مماثلة. ومن ناحيتى فإننى قد ألقيت بوجهة نظرى فى الموضوع من قبل، ولا أجد داعيا لإعادة عرضه الآن مرة أخري، إلا أن الدكتور محمد أبو الغار نشر مقالا هاما فى صحيفة المصرى اليوم الغراء يوم الثلاثاء 29 نوفمبر المنصرم بعنوان «لماذا تيران وصنافير مصرية 100/100». وعندما يأتى مقال كهذا من شخصية مصرية سياسية وفكرية بالغة الاحترام والتقدير منى شخصيا ومن الرأى العام المصرى كمفكر وقيادة حزبية هامة، فإن ما يقول به ينبغى أن يؤخذ بالجدية التى يستحقها لأن فى الموضوع كثيرا من العواطف المشروعة، والآراء المحترمة، التى لا ينبغى تجاهلها، والرأى العام على حاله فى مصر يسير فى فترة بالغة الحرج فى أمور كثيرة تختلط فيها الأوراق، ويلبس فيها الباطل أشكالا كثيرة للحق. والخلاف يبدأ من أن اتفاقية ترسيم الحدود المصرية السعودية مخالف لنص المادة 151 من الدستور لأن هذه المادة تتضمن ثلاثة أمور: الاتفاقيات الدولية وهذه على الحكومة عرضها على مجلس النواب؛ والاتفاقيات المتعلقة بالسيادة وهذه تتطلب استفتاء الشعب؛ والتنازل عن أرض مصرية وهذه لا حق لحكومة ولا لحاكم فيها. هذا ما يدور عليه التنازع القضائى والذى لم يصدر فيه حكم نهائى بعد حيث أن سؤال الحكم هو عما إذا كان الموضوع من اختصاص الحكومة فيكون الذهاب إلى مجلس النواب، أو أنه تنازل عن أرض فيبقى الأمر، بكل ما يترتب عليه من نتائج سياسية وقانونية واقتصادية، على ما هو عليه. إذا فلا قطعٌ هناك بوجود مخالفة دستورية، ولكن المقطوع به أن مصر لم تكن دولة مستقلة، وذات سيادة، حتى إعلان 28 فبراير 1922 الذى يعتبره العالم تاريخ قيام الدولة المصرية بحدودها الراهنة. ما قبل ذلك كانت مصر ولاية عثمانية، وعندما قام والى مصر تحت راية الخليفة العثمانى بالتواجد على أرض الجزيرة العربية (المملكة العربية السعودية) فإنه لم يكن يفعل ذلك باسم مصر، وإنما باسم الباب العالى فى إستنبول. وهكذا فإن كل الخرائط الواردة بعد معاهدة لندن كانت تضع الجزيرتين فى إطار الملكية المصرية لأراض عثمانية. ولم يكن ذلك يخص فقط تيران وصنافير وإنما «الفتوحات المصرية» فى السودان أيضا. ولعل اتفاقية 1906 لترسيم الحدود بين «ولاية مصر» و«ولاية الحجاز» ومعتمدية القدس، كانت ترسيما من ناحية داخل أراضى الإمبراطورية العثمانية؛ ولكنه من ناحية أخرى وضع الأساس للدولة المصرية كما نعرفها الآن. هذا الترسيم وفقا للاتفاقية، وشروحاتها الواضحة فى كتاب نعوم بك شقير – على عكس ما ذكر الدكتور أبوالغار أن الجزيرتين تقعان ضمن إمارة الحجاز التى فُصلت عن مصر فى الاتفاقية؛ ووفقا لذلك فإن ما جاء صريحا فى المعاهدة أن جزيرة فرعون جزء من الأراضى المصرية يعنى أن الاتفاق تضمن النظر فى الجزر أيضا، وكان ما كان من ترسيم على النحو المذكور. كل ما كان قبل هذا الاتفاق لا يمكن الاعتداد به قانونا فى أى محكمة دولية إلا إذا اعتمدنا حقوقا للفتح، وهذه سوف تعود بنا إلى تواريخ سابقة كان فيها الفتح والفتح المضاد على شاطئى البحر الأحمر مما يجعل النظر مضطربا حول من أى بداية تاريخية نبدأ. وما جاء بعد الاتفاقية من تفاصيل غير منكورة عن التواجد المصرى كان من قبيل الإدارة والتحكم، واعتبارا من 1950 الطلب السعودى المباشر بالحماية. كذلك فإن اعتماد التواجد العسكري، وحتى التضحيات التى قدمتها مصر، كلها حدثت وفق زمانها فقد كانت القوات المصرية فى السودان، وسقط شهداء منها فى سوريا وفلسطين، بل وحتى فى الكويت، ولا يوجد الآن من يطالب بها كجزء من الأراضى المصرية. عدالة الدكتور محمد أبوالغار هنا فى غاية الأهمية، لأن ما ذكره من دلائل وبراهين، كلها لا تمس لا الاتفاقية الأساسية المعرفة للحدود المصرية، كما أنها لا تتعرض للنتائج الإستراتيجية واسعة النطاق التى تمس الحالة المصرية الآن. وبصراحة فإن الأوضاع فى حلايب وشلاتين سوف تتعرض لخطر بالغ قانونى على الأقل إذا ما اعتمدنا الحجج الإدارية والتنفيذية وحتى الأمنية المستخدمة فى نزاع داخلى فى مصر لا يدور فى حقيقته حول الجزيرتين، وإنما هو على طبيعة السلطة فى مصر، وعلى العلاقات المصرية السعودية التى لا تريد جماعة منا فى مصر تقدمها أو ازدهارها. وحتى لا يكون فى الأمر سوء فهم للقصد أو للنية، فإن الثقة كبيرة فى حكمة وعدالة د. أبو الغار فى النظر إلى الموضوع كله ليس وفقا لأحكام الجماعة التى تخلط بين العصور وأحداث التاريخ، وتعيد تفصيل القانون والدستور وفقا لأحلامها السياسية، وإنما وفقا لما يراه فى مصلحة مصر وسعيها نحو الاستقرار الذى بدونه تستحيل الديمقراطية وحقوق الإنسان. لمزيد من مقالات د. عبدالمنعم سعيد