سلاسل من سيارات الميكروباص تصطف في انتظار زبائنها تعوق المرور في شوارع حيوية, باعة جائلون يفترشون الطرق والكباري والميادين عارضين كل أشكال البضائع وألوانها...كل شيء يباع في الشارع. تلال قمامة تستقبل زائري المناطق المختلفة لتكون عنصرا أساسيا من مشهد الشارع المصري اليوم. مشاجرات وعنف وأعمال بلطجة وسرقة وتحرش وخطف, تلوث سمعي وبصري,جرعة دسمة من مشاهد القبح في الشارع و السلوك لتصبح الفوضي هي القانون السائد, ماذا حدث لمصر والمصريين؟ وكأن الشوارع في مصر المحروسة تحولت إلي مولد وصاحبه غايب, ضجيج وصخب, بضائع في كل مكان, إشغال للطرق بل و إعاقة السير فيها نهائيا. مخالفات طرق ومبان ومواقف عديدة من الانفلات السلوكي والأخلاقي الفج تفرض نفسها علي الواقع اليومي في مصر. وأقل ما يمكن أن يتعرض له من يحاول الاعتراض علي إحدي هذه المخالفات هو وابل من الشتائم والألفاظ النابية أوالتعدي بالضرب أوالقذف بالحجارة أوغيرها وهو ما قد واجه المصور أثناء محاولته التقاط بعض هذه الصور. فالمشهد السائد هو سمك, لبن, تمرهندي. من شارعي الجلاء ورمسيس حتي امبابة وفيصل ومن ميدان المطرية حتي ميدان الجيزة مرورا بوسط البلد تتكرر مشاهد الفوضي العارمة, لتتحول نداهة يوسف ادريس إلي مدينة مجنونة تكاد تلفظ من فيها من شدة الفوضي والزحام. خليط من سيارات الميكروباص والتوك توك وعربات الحنطور أحيانا أوالكارو تسير جنبا الي جنب مع أحدث ماركات سيارات الملاكي. هنا وهناك يتعالي الضجيج والصيحات والصدامات بين الباعة الجائلين وسائقي الأجرة أحيانا بسبب اصرارهم علي عبور الشارع في ذروة المرور, حاملين بضاعتهم,و تتكررالمشادات مع المارة بسبب انعدام فرصة السير بين كم البضائع التي تفترش الطريق. أطعمة وفاكهة تجاور الملابس والأحذية والأدوات المنزلية في مشاهد عبثية اعتادت عليها أعين المارة. أما أعمال السرقة والبلطجة والتحرش والخطف, فحدث ولا حرج, ورغم ما ترصده الشرطة كل يوم فإن هناك الكثير مما يحدث في غيابها وما لا تصل إليه يد رجالها أو يتجنبون مواجهته. ففي الشارع كل يتصرف وفق قانونه الخاص, وكأن الفوضي أصبحت ثقافة عامة. لا احد يفكر في المنظومة العامة واحترام القانون. ورغم أن مشاهد الفوضي العارمة تناقض اللقطات الحضارية المنظمة التي اتسم بها المصريون أيام الثورة وكان الميدان الصورة المثلي لمصر التي نتمناها جميعا, إلا ان ذلك لم يمنع العشوائية والسلوكيات السلبية من العودة مرة أخري إلي الشارع, لتستبدل الخصائص الايجابية التي ظهرت في الشخصية المصرية في أثناء الثورة بأخري سلبية. وهو ما يفسره د. أحمد عبد الله, استاذ الطب النفسي بجامعة الزقازيق بأ ن الجميع كان حبيس بوتقة النظام السابق والكم الهائل من الضغوط و المعاناة وعمليات الهدم والافساد وأتت الثورة لتخرج أجمل ما في الشخصية المصرية لأنهم عرفوا كيف يمكنهم أن يكونوا شخصيات آدمية لها حقوق وبالتالي عليها واجبات والتزامات. طاقة هائلة اانطلقت خلال الثمانية عشر يوما استطاعت أن تصنع مشهدا مبهرا ومثاليا رآه كل العالم. دولة انسحبت ومواطنون قاموا بدورها. لكن لم يحلل احد المشهد او يفكر في استثمار هذه الطاقة التي تعتبر الترياق الوحيد لشفاء الوطن وإنقاذه من اوجاعه. ويستطرد أن ما حدث هو العكس بدلا من الحفاظ عليها قاموا بتشتيتها وتفتيتها في سلسلة من الخلافات والصراعات علي الساحة السياسية ليجد المواطن نفسه في المفرمة وقد اهتزت لديه الكثير من الثوابت. وهو ما أدي إلي تحول طاقته إلي رافد إضافي للفوضي. وبدلا من تنظيف الشوارع وحماية منطقته تحول إلي العنف و التحرش وتحولت الطاقة من نعمة إلي نقمة. عشوائية سياسية واجتماعية البعض أساء فهم الحرية وتصور أن الثورة معناها الفوضي وان الهدف هو التعدي علي القوانين لا احترامها خاصة في ظل سلسلة من الاحباطات نتيجة لعدم حدوث تغييرات علي أرض الواقع. ويتطور الأمر لنصبح في عصر ذهبي للعشوائية, ونري البلطجية يخرجون من جحورهم, في كل مكان يفرضون أنماط سلوكهم, والفاظهم. و للفوضي عدة أنواع كما يوضح د.عبدالله, بلطجية يدفع لهم بعض عناصر اجهزة الدولة أورجال النظام السابق اواصحاب المصالح, ممن يرفضون التغييروبالتالي لن يكونوا مع النظام او سيادة القانون. ونوع آخر سببه إهمال أجهزة الدولة والتي لا تتدخل بشكل كاف لحل المشكلات وفرض النظام والقانون ومن بينها الداخلية التي مازال دورها قاصرا حتي الآن. ويضيف: الاهمال كان موجودا لكنه الآن إهمال عقابي وانتقامي من الشعب الذي قام بالثورة. وهناك نوع آخر من الفوضي سببه أن هذا الشعب ظل حبيسا منذ عشرات السنين فضمرت عضلاته الجسمانية والنفسية واصبح لا يستطيع ضبط سلوكه, خاصة في ظل ميراث طويل انتج اليوم طبقات سياسية مختلفة تكاد تكون معادية للمستقبل الذي تطمح إليه الثورة. خلافات وفقدان ثقة وثبات بل تراجع في الظروف و الأحوال الاجتماعية والاقتصادية لدي الكثيرين, مما زاد من التوتروالفراغ بالاضافة لحالة اللاثوابت وفقدان الهدف مرة أخري, عناصركونت تربة خصبة وممهدة لزراعة كل اشكال الفوضي. والحل ليس في إستدعاء أسلوب القمع كما يري د. عبد الله لكن في إعادة قدر من الاستقراروإستعادة الدولة لكن بشروط جديدة, من خلال حضور مجتمعي, مشارك علي الساحة واستخدام طاقته لتكون خلاقة. أساعد المصري علي استعادة عضلاته الضامرة ونفسيته الخلاقة. فيمكننا إعادة توجيه حالة السيولة إلي الاتجاه الايجابي بالاهتمام بالقضايا الاجتماعية بشكل حقيقي. وهذا هو التحدي. وكان د.أحمد عكاشه, رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي, قد برر ما يحدث من حالة فوضي السلوك وعشوائيته بأنها بسبب الاناء الذي يغلي بداخل الانسان المصري الذي عاني كافة أشكال القهر و لفساد. الغطاء قد كشف ولا يستطيع أحد منع الانفجار. لكنه يردد دائما أنه متفاؤل بأن الانفجار سوف يهدأ وسوف يعود الانسان المصري لإكتشاف أفضل ما فيه. فهل يحقق انتخاب رئيس مصر هذا الاستقرارأم أن وجوده علي غير هوي ملايين من المصريين قد يدفع إلي المزيد من الفوضي؟ حصريا في مصر فتاة تمتطي حمارا وسط الطريق بمنطقة المهندسين وتسير به في ثقة بين سيارات الأجرة والملاكي. لا يشغلها الزحام أونظرات المارة, لا أحد يعرف كيف أتت إلي هذا المكان بالحمار وماذا تفعل هنا؟!, لكن المشهد يبدو مثل الكثير غيره حصريا في مصر, يجاور فيه الحمار أو الحصان أحيانا, التوك توك والسيارة الملاكي والمارة في نفس الشارع. لا تتعجب! رجل يحاول عبور الشارع وبين يديه أكثر من عشرة أطفال, ربما يكون سائق التاكسي الذي يقوم بتوصيلهم كل يوم أو ولي أمر أحدهم.لكن المشكلة أنه رغم مرور السيارات والزحام الشديد في منطقة روض الفرج يسير بثقة وبدون قلق وسط الطريق وليتصرف الصغار لحماية أنفسهم.