المخاوف كانت جامحة, والقلق عاصفا, عندما نشر المفكر الألماني ازوالد اشبنجلر كتابه المثير للجدل والفزع تدهور الحضارة الأوروبية عام.1918 فقد كانت الحرب العالمية الأولي ماتزال معاركها الضارية مستعرة. وحذر اشبنجلر وأنذر من أن الحضارة الأوروبية تدخل طور الأفول. وكان ما قاله صدمة روعت كبار المفكرين, ناهيك عن الجماهير التي كانت جراحها غائرة بسبب المعارك الحربية الشرسة, بينما هلك مئات الآلوف من الضحايا وبادر المفكرون والمؤرخون بافكار تكهنات اشبنجلر عن تدهور الحضارة الاوروبية وأفولها. ومنذ ذلك الكتاب الصدمة, وتلك الحرب العالمية الأولي, ثم الحرب العالمية الثانية, صارت فكرة تدهور الحضارة الأوروبية هاجسا يثير خيال بعض الكتاب والروائيين الذين يتصورون مصيرا غامضا ومأساويا يتنظر الحضارة الأوروبية بل والغربية بأسرها. ولعل الروائي الأمريكي ماكورمك ماكارثي قد أفصح عن هذه الهواجس في روايته الطريق التي نشرها عام2006 وفاز بجائزة ادبية بريطانية كما صارت الرواية فيلما سينمائيا. وهي تصور حالة من الدمار حلت بأمريكا وارتدت في عتمتها الحالكة الي زمن مخيف يعربد في ساحته أكلة لحوم البشر. ولكن روايات النبوءات السوداء, لا تعدو في التحليل الأدبي النهائي سوي ضرب من الخيال القاتم الجامح. وتبقي الكلمة في شأن المستقبل لصفوة المفكرين والمؤرخين. ولذلك فان ما قاله المؤرخ البريطاني الشهير انطوني بيفور عن تفكك أوروبا تحت وطأة أزمتها الخانقة لابد أن يثير القلق. وكان هذا ما عبرت عنه كاتبة صحفية مرموقة هي اليزابيث جريس عندما قالت انها شعرت بالفزع, بينما كانت تستمع لما يقوله بيفور, في أثناء حديث اجرته معه بمناسبة نشر كتابه الجديد الحرب العالمية الثانية ووصفته بأنه رجل الساعة وحكيم الزمن الراهن. وتشير الي انه كان فطنا وحصيفا وهو يحذر من مخاطر صعود قوي اليمين السياسي المتطرف في أوروبا, واقتران ذلك بظهور نزعة قومية متشددة. وهو مايعرف الحلم الاوروبي للتهديد. ويوضح المؤرخ انطوني بيفور أن الحلم الأوروبي كان يتمثل في التخلص من النزعة القومية المتطرفة. ولكن مايحدث الآن يوحي باننا نمضي في طريق قد نواجه فيه الوحش القديم للقومية المتشددة.( ولعل تعبير الوحش هنا يذكرنا برواية الطريق ويري أن هذا الوحش يستيقظ من سباته, اذا ما أدركت الشعوب الأوروبية أن رجال السياسة لم يعد في وسعهم احكام سيطرتهم إلا قليلا علي مجريات الأمور ويشير المؤرخ الي أن حالة من التفكك تحدث الآن في أوروبا. ويضيف موضحا أن صعود اليمين المتطرف في أوروبا في الوقت الحاضر لا يماثل صعود اليمين في عقد الثلاثينيات من القرن العشرين. وذلك في اشارة لصعود النازية في المانيا بزعامة هتلر, والفاشية في ايطاليا بزعامة موسوليني. ولكن الصعود الراهن لليمين المتطرف مسألة لا تبعث علي الارتياح. وقد تجلي هذا الصعود المثير للقلق مؤخرا في تقدم حزب الجبهة القومية المتطرف بزعامة مارين لوين في الانتخابات الرئاسية الفرنسية. فقد جاء في المرتبة الثالثة بعد الحزب الاشتراكي والحزب اليميني في الجولة الأولي من الانتخابات, وكانت المفاجأة المخيفة هي ظهور الحزب النازي في اليونان. وهنا يبادر انطوني بيفور الي تأكيد انه لا يؤمن بالقول الشائع بأن التاريخ يعيد نفسه. ويشير الي أن انطوني ايدن رئيس وزراء بريطانيا ابان أزمة السويس عام1956( العدوان الثلاثي علي مصر) قد وقع في مصيدة هذا القول الشائع الخاطيء والخطير, عندما قارن جمال عبدالناصر بالزعيم النازي الالماني هتلر. وهو ما ادي الي كارثة السويس, بمعني الهزيمة التي لحقت ببريطانيا. وكانت بداية لانحسار نفوذها في منطقة الشرق الاوسط. ويري أن النظر الي الماضي, وقت اندلاع أزمة, يرجع الي افتقار المرء لاي فكرة عما يحدث. ولأننا تعثرنا في الماضي لايعني تلقائيا أن نتعثر في الحاضر والمستقبل. ويرشق بيفور فكرته المحورية في قلب المشهد السياسي الأوروبي الراهن, عندما يقول إن أوجه الشبه الوحيد بين الأحداث الحالية وتلك التي كانت قائمة في أواخر عقد الثلاثينيات هو أن الوضع بالغ السوء. ويرجع ذلك الي انه لم يوجد رجل سياسة انذاك, ولا حتي الآن يجرؤ علي قول الحقيقة. ويشير الي أن ونستون تشرشل قد تعرض لحملة ضارية من الانتقادات عندما قال الحقيقة وحذر من مخاطر اعادة تسليح المانيا قبل الحرب العالمية الثانية. غير أن لم يصل الي السلطة ويصبح رئيسا لوزراء بريطانيا الا عندما اندلعت الحرب التي فجرها النازي الالماني هتلر. وقد اضحت تلك الحرب العالمية الثانية محور اهتمام المؤرخ, الذي يبلغ من العمر الآن خمسة وستين عاما, وقد استهل مؤلفاته المهمة عندما أصدر عام1999 كتابه ستالينجراد وهي المعركة الضارية التي جرت ابان الحرب العالمية الثانية بين القوات النازية الالمانية والقوات السوفيتية. وكانت قد بدأت في سبتمبر1942 بهجوم الماني علي مدينة ستالينجراد الروسية. غير أن القوات السوفيتية تمكنت من الحاق هزيمة ساحقة بالغزاة الالماني في31 يناير1943, وكانت هزيمة المانيا نقطة تحول فاصلة في الحرب علي الجبهة الشرقية. وقد فاز هذا الكتاب بثلاث جوائز كبري في اسبوع واحد من عام.1999 وبلغت مبيعاته نحو ثمانية ملايين نسخة. وكان بيفور قد عكف اربع سنوات علي تأليفه. ولم تمض سوي ست سنوات, حتي نشر كتابه برلين: سقوط عام1945 وهو عام نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة المانيا وانتحار هتلر. وحقق الكتاب نجاحا كبيرا. ثم نشر مؤخرا كتابه الحرب العالمية الثانية. أن انطوني بيفور المولع بالتاريخ وحقائقه: لا يكدر صفوه سوي الروايات التاريخية. ويري أن كتابها لا يلتزمون بالحقيقة التاريخية. ولا يتردد في انتقاد روايته بريطانية شهيرة هي هيلاري مانتل مؤلفة الرواية التاريخية قاعة الذئب التي فازت بجائزة بوكسر الأدبية الرفيعة. وكانت هيلاري قد تناولت فيها شخصية توماس كرومويل(1485 1540) وكان الوزير الاول في بلاط الملك هنري الثامن. ويشير المؤرخ الي انه كان يود ألا تطلق الروائية علي شخصيتها الروائية اسم توماس كرومويل. ويري أن عدم التمييز بين الحقيقة التاريخية وخيال الروائي مسألة خطيرة. ويقول وهو يبتسم إن زوجتي لا تتفق معي في الرأي حول الروايات التاريخية. وزوجته تدعي اريتمس وهي مؤرخة. لكن الخلاف في الرأي بين المؤرخ وزوجته لا يفسد للود قضية.