منذ قديم الزمان تقوم الدول على ثلاثة أسس متراصة ومترابطة، ويمسك بعضها بعناق بعض، كل منها يقود للآخر، ويؤدى اليه، فى صورة دائرية، يستحيل معها أن تعرف من الأول، ومن الآخر، أو أين البداية وأين النهاية، هى حلقة دائرية، مثل السواقى فى وادى النيل تقوى الدول وتعظم الأمم اذا كانت هذه الأسس متعاظمة متماسكة، ولا يوجد ضعف أو قصور فى أى منها، لأنه يستحيل أن يضعف واحد منها، وتظل الأمة عظيمة، أو الدولة قوية. هذه الأسس الثلاثة للدولة القوية، والأمة العظيمة أجمع عليها قطبا الفكر السياسى فى العصور القديمة: الفرس واليونان، وعنهما نقل العرب والمسلمون، وصارت هذه الأسس قاعدة صلبة رصينة للفكر السياسى فى مختلف العصور الاسلامية، فقد كان الفكر السياسى اليونانى والفارسى هما الأصل الذى نقل عنه مفكرو الاسلام، وهما المعمل أو المختبر التاريخى الذى نضجت فيه نظرية الحكم والدولة عند المسلمين والعرب. وينقل لنا صاحب مقدمة «ابن خلدون» من كلام كسرى آنو شروان ملك فارس قبل الاسلام: «الملك بالجند، والجند بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالعمارة، والعمارة بالعدل، والعدل باصلاح العُمال، واصلاح العُمال باستقامة الوزراء، ورأس الكل بتفقد الملك حال رعيته بنفسه». ثم يضيف ابن خلدون وفى الكتاب المنسوب لأرسطو فى السياسة: «العالم بستان سياجه الدولة، الدولة سلطان تحيا به السُنة، السُنة سياسة يسوسها الملك، الملك نظام يعضده الجند، الجند أعوان يكفلهم المال...» مابين قطبى الحكمة السياسية؛ كسرى ملك فارس الذى شهد له علماء الاسلام بالعدل، وأرسطو أعظم عقول اليونان والغرب عموماً فى التفكير السياسي، دارت حوارات مفكرى السياسة فى الاسلام، واستقروا على أن العالم بستان سياجه، أو السور الذى يحميه هو الدولة، والدولة يحرسها ويحافظ عليها الجند، والجند يحتاج المال، والمال لا مصدر له الا العمل والانتاج الذى يقوم به الشعب، والشعب لا يعمل الا اذا شعر بالعدل واطمأن للدولة والحكومة، وشعر بالأمان معها. الدولة تحرس العالم، قاعدة بدأ بها العمران البشرى فى الكون، وانتظمت بها المجتمعات، وقُدِّمت فيها النظريات، ومن أشهرها نظرية العقد الاجتماعى التى بدأ بها الفكر السياسى الغربى الحديث مرحلة الحكم الديمقراطى الذى يحافظ على حرية الإنسان وكرامته، واشتهر بها المفكر الفرنسى جان جاك روسو، والانجليزى جون لوك، فبدون الدولة يكون العالم غابة وتصير حياة البشر وحشية، يأكل فيها القوى الضعيف. والدولة لا تستطيع الاستمرار والوجود الا بالجند، سواء كانوا جندا من أهلها وأبنائها، أو جندا من دولة أخرى تتعهد بحمايتها والحفاظ على أمنها، أو جند من مجتمع آخر مثل الجندى السويسرى الذى يحمى الفاتيكان، لأن الفاتيكان، رغم رمزيته الروحانية العالمية فإنه يحتاج للجند لكى يستمر فى أمان، بعيدا عن حماقات السفهاء، وجهالات المجرمين فالجند ضرورة لا مناص منها، لأن فى أعناقهم أهم حاجات بنى الانسان، بل نصف حاجات بنى الانسان فى هذا الكون. لكن الجند وجودهم تابع لوجود العمال والفلاحين، ولا وجود لهم بدون ثروة مجتمعية تنتج عن حالة الخصب الزراعى، والعمران الاقتصادى، لأن الجند يحتاج الى المال، والمال يأتى بالضرائب، ولا ضرائب الا بعد انتاج، لذلك تكون قوة الدولة العسكرية ناتجة عن قوتها الاقتصادية، ولا توجد قوة عسكرية دولية أو اقليمية الا وهى قوة اقتصادية بنفس الدرجة، وعلى نفس المستوى الاقليمى أو العالمي، ومن أراد أن يبنى قوة عسكرية بدون قوة اقتصادية كافية؛ سيكون مصيره الافلاس الاقتصادي، والانهيار العسكري، أو تحول الجند الى قوة تدمير للمجتمع، لعدم وجود الموارد الكافية لإعاشتهم وتسليحهم، فيلجأ الحاكم للضرائب التى ترهق العمال والفلاحين؛ وتقضى على الاقتصاد برمته. وهنا يأتى العامل الحاسم فى المعادلة، الأساس الثالث، وهو الركن الأخطر فى كل هذه المعادلة، وهو العدل، فالعدل قوام العالم، وأساس الكون، وميزان السموات، وبدون العدل ينهار النظام كله، والعدل يطبقه المؤمن والكافر، لذلك قال ابن تيميه وابن القيم رحمهما الله: «ان الله يديم دولة الكفر مع العدل، ويزيل دولة الايمان مع الظلم» فالعدل هو الاساس والميزان الذى يحفظ المعادلة، ويحافظ على الدولة، وبه يستقر ويستمر المجتمع، لان علاقة الجند مع الدولة لابد أن تقوم على العدل، وعلاقة الدولة مع شعبها، لابد أن تقوم على العدل، واذا غاب العدل اختل الميزان وسقط النظام، وانهارت الدولة، وتفكك المجتمع. بالجند والعمران والعدل تقوم الدول وتستقر وتقوى، وبضعف هذه المعادلة، أو اختلالها تضعف الدولة، وينهار المجتمع، لذلك لابد من وجود هذه الأسس، أو الأركان الثلاثة قوية متماسكة، ولا وجود لأحدها بدون الآخر، أو على حساب الآخر، ومن يظن أن التطور الحادث فى الكون، وأن عصر العولمة، والحريات، والثورات، قد يوجد معادلة أخرى واهم من الحالمين الذين لم يفهموا العالم، ولايدركوا المعلوم، ويكفى أن ينظر الانسان فى ميزانية التسليح فى الدول الكبري، ويقارنها بالدخل القومي، وبمعدل دخل الفرد سيجد أن الثلاثة متناغمة منسجمة فى منظومة واحدة، وهنا يتضح جلياً حقيقة من يريد أن يتخلص من الجيوش العربية تحت حجج الثورية والديمقراطية والمدنية!. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف;