أخيرا بدأت ملامح رئيس جمهوريتنا الثانية تتحدد؟ و لعل الأهم من إعلان اسم الرئيس رسميا هو تفسير انقسام الأصوات بذلك الشكل الذي لم تشهده بلادنا في تاريخها قط, وإن كان مألوفا وطبيعيا في البلدان الديمقراطية جميعا; فسواء فاز الدكتور مرسي أو فاز الفريق شفيق, فإن الفوز سوف يكون علي حرف, والسؤال هو: تري فيم كانت المفاضلة بين المرشحين؟ كيف تصور الناخبون و غالبيتهم العظمي من المصريين البسطاء الفقراء جوهر تلك المفاضلة؟ هل فاضلوا بين الدعوة للاستقرار و الدعوة إلي استمرار الثورة؟ أم بين الثورة و نظام مبارك؟ أم بين الدولة الدينية و الدولة المدنية؟ هل كان التصويت العقابي خوفا من الإخوان أو نفورا من عودة النظام القديم هو الفيصل؟ لقد كانت المفاضلة وفقا لخطاب الفريق شفيق بين الدعوة للاستقرار و الدعوة لاستمرار الثورة; و أغلب الظن أن غالبية من أعطوه أصواتهم- باستثناء التصويت العقابي الذي يستحيل تقدير حجمه بالنسبة لكلا المرشحين- يرون الاستقرار سبيلا لسيادة الأمن و الازدهار الاقتصادي و عودة عجلة الإنتاج للدوران; و هو ما لا يتعارض موضوعيا مع المفهوم العلمي لأهداف الثورة, و لكنه يتعارض مع صورة الثورة التي اختزلت لديهم في المظاهرات و المليونيات و تعطيل المصالح. بالمقابل كانت المفاضلة في رأي جماعة الإخوان المسلمين بين ممثل لنظام مبارك الذي قامت الثورة في مواجهته وممثل للثورة, و لا يخلو هذا القول من وجاهة; فقد أسند الرئيس السابق قبل أن يتنحي مهمة رئاسة الوزراء إلي الفريق أحمد شفيق, و شاهدناه يؤدي أمامه اليمين الدستورية; بما يعني أنه كان محل ثقة مبارك, و من ناحية أخري فقد شارك الإخوان المسلمون بالفعل في الثورة ضمن مختلف أطياف الشعب المصري. لكن تري هل يمكن النظر إلي ثوار يناير باعتبارهم كتلة واحدة منسجمة تقف خلف الدكتور مرسي في مواجهة الفريق شفيق؟ لقد انشقت صفوف هؤلاء الثوار مبكرا, و هو ما نبهنا لخطورته منذ نذره الأولي و ذكرنا الجميع بما تسبب فيه مثل هذا الانقسام من مآس في الساحة الفلسطينية ما زالت مستعصية علي الحل حتي الآن, لقد بدأ شرخ الصف الثوري يوم الجمعة18 فبراير بعد مضي أقل من أسبوع علي تنحي مبارك فيما أطلق عليه جمعة النصر, حيث خطب الجمعة و أم المصلين الشيخ القرضاوي, و رغم ما تميزت به الخطبة من اعتدال ملحوظ; فقد أثارت توجسا أخذ في التزايد مع توالي الأحداث ليزداد الشرخ عمقا بين القوي الإسلامية و القوي السياسية اللبيرالية ليصل الثوار الليبراليون في النهاية إلي مأزق المفاضلة بين ممثل للنظام القديم و ممثل لجماعة الإخوان المسلمين, فاتجهت غالبيتهم إلي مقاطعة الانتخابات أو إبطال أصواتهم و هو ما يعني أنهم لا يرون في أي من المرشحين المتنافسين من يمثلهم. للحقيقة فلم يكن من أعطوا أصواتهم للدكتور مرسي من أعضاء و أنصار جماعة الإخوان المسلمين و تيارات الإسلام السياسي فحسب; بل انضم إليهم أيضا بعض رموز الثورة و الليبراليين ممن لا يشك أحد في معارضتهم لتيار الإسلام السياسي; و في المقابل فإن الأصوات التي حصل عليها الفريق شفيق لم تكن مقصورة علي أنصار النظام السابق و حزبه الوطني, بل انضم إليهم أيضا عدد من رموز الثورة من الناصريين و الليبراليين ممن لا يشك أحد في معارضتهم للحقبة المباركية علي الأقل من النظام القديم. لعل ذلك يدعونا لمراجعة القول بأن جوهر الانتخابات كان المفاضلة القاطعة بين الثورة و النظام القديم; و الأرجح فيما نري أنها كانت بين الصورة الإدراكية لدي الجمهور لكل من الدولة المدنية و الدولةالدينية., وغني عن البيان أن العلاقة واهنة بين الصورة الإدراكية و التحليل العلمي الموضوعي. صحيح أن الإسلام لا يعرف قداسة لبشر, ومن ثم فإن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية, وصحيح كذلك أن مصطلح الدولة المدنية مصطلح لا تعرفه القواميس والموسوعات المتخصصة في علم السياسة; غير أن كل ذلك مهما تكن صحته العلمية لا ينفي مطلقا أن الصورة الإدراكية للإخوان المسلمين لدي الجمهور تحمل ملامح الدولة الدينية. لا يستطيع أحد أن يتصور إن من أعطوا أصواتهم للفريق أحمد شفيق; يرفضون الإسلام, فهم في غالبيتهم العظمي مسلمون; و لكن الصورة الإدراكية لديهم للإسلام الصحيح أنه لا يسمح للسلطة بالتحكم في سلوكهم من منطلق الحلال و الحرام, و أنه يترك لهم تجنب ما يرونه حراما إذا ما اقتنعوا بذلك, و الإقبال علي ما يرونه حلالا بإرادتهم, و أنه ليس لأحد أن يفتش في عقيدتهم و أن يختبر إيمانهم. خلاصة القول أن الفائز هو رئيسنا جميعا, و علينا مساندته في أداء مهمته, دون أن يقلل ذلك من حقنا في مراقبته و معارضته, و عليه بالمقابل أن يتذكر أنه فاز بأغلبية تخطت النصف بالكاد, و عليه أن يسعي حثيثا لكسب ثقة من أحجموا عن منحها له بأن يفي بوعوده, و أن يقدم لنا جميعا نموذجا ديمقراطيا حقيقيا. [email protected] المزيد من مقالات د. قدري حفني