من يقول إن العظماء يموتون هو واهم بلاشك! فموتهم حياتهم، كما يؤيدني الشاعر بقوله : قد مات قوم وما ماتت مكارِمُهُم وعاش قوم وهُم فِي الناسِ أمواتُ نعم لا يموت العظماء - ومنهم القدير»محمود عبد العزيز» الذي غادرنا منذ أيام - فلا يندثر منهم إلا العنصر الترابي الذي يعود إلى أصله في أمان، لكن تبقى معانيهم حية على الأرض، لتكون بمثابة قوة وطاقة خاصة تحرك كل ساكن فينا، بل إنها تلك الرابطة المتينة التي تجمع ولاتفرق أبدا باعتبارها نورا ساطعا يهدي ويعلم ويضيء معالم الطريق الصعب، وفي ذات الوقت يفيض عطرها فواحا الذاكرة، وتلك هي عظمة الخالق في مخلوقاته من البشر، وذاك هو الخلود الأبدي القادم من فرط إبداعهم، فكل ما يخلفه العظماء من ميراث علمى وثقافي وفني يبقى آثارا مشهودة يُنتفع بها الناس، وأمجادا يعتزون ويفخر بها في سجل التاريخ، وهى في النهاية أعمال جليلة تحتذى ، وأفكار نيرة يهتدى بها من بعدهم ، كما قال الشاعر: المرء بعد الموت أحدوثة يفنى و تبقى منه آثاره فأحسن الحالات حال امرئ تطيب بعد الموت أخباره لقد ترجل «ساحر السينما» و»غول الدراما التليفزيونية» الاستثنائي «محمود عبد العزيز» عن فرس الإبداع والتألق قبل الأوان، صحيح أنه بلغ السبعين من العمر، لكنه رحل في وقت ما زلنا في أشد الحاجة إليه على الشاشة، خاصة أن أمثاله من الاستثنائيين لا يعوضون، في ظل السلبية والاستسهال اللذين يعدان عنوان زمن التردي الحالي في ميل جارف إلى العنف الذي لم يعرفه في أدائه طوال مشوار من الإبداع والتالق، إلا كما يصفه أرسطو بأنه قدرة تامة على التأثير، وأيضا باعتباره أكثر عنصر يضفي علي الدراما جاذبية، طبقا لنظريته في الضرورة والاحتمال، بحيث يتم توظيف هذا بشكل يتسم بالحكمة وتقدير الموقف الدرامي، كما جاء في حالة واحدة له هى شخصية «إبراهيم الأبيض» والذي أداه بعذوبة منقطعة النظير، رغم ما يعتري أغلب المشاهد من عنف ناجم عن تعرضه في طفولته لمشهد مقتل والده أمام عينيه على يد عصابة كبيرة تتاجر في المخدرات، فيكبر الطفل وصورة مقتل والده لا تفارق عينيه ويتمنى أن يمضى به الزمن بسرعة لكى ينتقم من كل أفرادها وفى مقدمتهم بالطبع زعيم العصابة ومن أجل هذا نراه يخضع لتدريبات قاسية وعنيفة، لكنها تبدو مبررة دراميا على جناح ذلك الأداء الاستثنائي من جانبه بصورة لا تجرح المشاعر بقدر ما تحفز على تعاطف كثير من المشاهدين. لا أخال نفسي مسرفاً إن اشتهيت أن يتذوقَ الناس خلاصة إبداعك، وصدق تجسيدك الحي في أفلام « العار، الكيف، الكيت كات، الساحر، البرئ، الجوع، إعدام ميت، جري الوحوش، سوق المتعة، هارمونيكا» وغيرها من أفلام تظل علامات بارزة في السينما المصرية، حيث كنت فيها طائرا مغردا يجيد التحليق بين التراجيديا والكوميديا، مرتكزا على مفهوم مغاير للدراما الإبداعية القائمة على الارتجال، وممارسة اللعب بمختلف أنواعه، متكئا على التمثيل التلقائي، والارتجال العفوي الطبيعي، والإكثار من الألعاب الفطرية المتنوعة المبنية على المحاكاة والتقليد، والاهتمام بالتخييل الإيهامي الذي يضفي جمالا على المشاهد، لتؤكد مفهوم «ستانسلافسكي» في أن أي إيماءة يجب أن تكون صادرة عن إحساس حقيقي لتبدو تلقائية، أوبمعني آخر يجب أن يقوم الممثل بالحركة لأنه مضطر للقيام بها, ولا يملك سوى هذا, وليس لأنها تعجب المتفرجين. عزاؤنا في رحيلك أيها المبدع الفذ أنك تركت لنا رصيدا هائلا من المسلسلات التليفزيونية والإذاعية التي ستظل محفورة في الذاكرة بفرط من موهبة لا تتكرر بداية من «الدوامة» و»البشاير» إلى قمة التألق في «رأفت الهجان، محمود المصري، باب الخلق، جبل الحلال، راس الغول» وكلها أعمال تتسم في مجملها بالجدية، وتعكس قدراتك الخاصة في الانطلاق من المشاعر الداخلية الإبداعية الصادقة, فالحوار كان يتحول على لسانك إلي ترجمة لمشاعر داخلية نحسها نحن بالفعل أمام الشاشة، حين كنت تعمد ببراعة إلى بناء شخصية متكاملة بدلاً من أن يقتصر دورك علي مجرد الأداء العادي للحوار، لتبدو صوتا صارخا بأوجاعِ الناس ولواعجهم، تلوم وتلسع بكلمِ نافذ عبقري لا يتوقف عن فتح قنوات الأمل والتبصير بواقع الحال العصيب الذي نعيشه. لقد تركت برحيلك فراغا كبيرا في النقاء والزهد الفني، والتواضع والالتزام، من الصعب أن يملأه آخرون بعدك، لقد خسرناك حقا، ومن الصعوبة بمكان تعويضنا عن قدرات الإنسان والممثل الذي يعتلي خشبة المسرح والشاشة الصغيرة والكبيرة لكي يقدم مهاراته وفنه كحامل خطاب مهم الى الجمهور، من خلال تكثيف الأحداث وإيصال هدف العمل للجمهور عبر وسائله و أدواته القياسية في الأداء والإلقاء وقراءة النص وقوة التعبير، موضحا القدرة الفنية والوظيفة الفنية لتلك المهمة. لقد خسرنا تأثيرك الحاصل على المتفرج عبر ذلك السحر والمتعة التي قدمتها في مسلسلاتك الأخيرة، لتضرب لنا أروع الأمثلة في كيف لنا أن نرى الممثل الذي يمتلك القدرة السحرية على سرد تلك الأحداث، وتأدية عمله بشكل مميز، وكيف يتعامل مع جميع عناصر الدراما وأهمية توظيفها لخدمته في الدور والشخصيات، بسلامة النطق والافصاح ووضوح الكلمات المنطوقة ومخارج الحروف والتحكم في التنفس، كما افتقدنا بالطبع صفات أن يكون الممثل واعيا ومثقفا، ويعتمد آلية تمثيل متطورة ولا يكون متخشبا لاحياة فيه, و أن يكون يقظا وحساسا وغير اندماجي إلى حد الإسراف، بحيث يراقب نفسه أثناء العمل حتى لايسبق الشخصية ولا يتخلف عنها، وأن يتمتع بخيال خصب، وأن تكون مخيلته خصبه ويستطيع أن يسبر غور الشخصية التي يراد تمثيلها، وذلك بالتعرف الجيد على كل الأبعاد التي تتمتع بها تلك الشخصية، كما في «البعد الطبيعي، البعد الاجتماعي، البعد النفسي» وعليه أيضا أن يعي تاريخ الشخصية وتطورها في مراحلها الانسانية، لقد كنت بارعا حقا في اختيار وتحديد صفات شخصياتك على مستوى السيرة الذاتية المميزة للشخص، وأيضا سلوكه، ويعتبر( السلوك ) هو الحدث الدرامي لأن جوهر الشخصية يعني لنا الحدث الدرامي، كل ذلك كان انطلاقا من إيمان راسخ بداخلك بأن هذه الصفات والعلاقات ترتبط ببعضها البعض وتتداخل الواحدة بالأخرى أثناء عملية بناء الشخصية وتحديد شكلها، وبعد ذلك يتضح لك مايلائم فعلا بناء هذه الشخصية أو تلك. وأخيرا تبقى أهم مزاياك حية بيننا، طبقا لقول الطبيب وعالم النفس الفرنسي الشهير هنري لابور: «وحتى تكّون نفسك في مواجهة الظروف وتصرفات الآخرين المزعجة والمستفزة أحياناً، عليك أن تستدعي عدداً من الخصال الإنسانية بامتياز، ألا وهي الضمير، العقل، القدرة على التعبير عما نشعر به، والتضامن مع الآخر، كما يحتاج فرض ذاتك إلى أن تتسلح بثقة صلبة بنفسك، وبالآخرين وبالحياة» .. هكذا كان آخر فعلك أيها المبدع الراحل الكبير «محمود عبد العزيز» حتى آخر نفس. و لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.