عندما تحدثت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماى مع الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب لتهنئته بانتخابه، تحدثا عن حيوية العلاقات بين لندنوواشنطن حاليا ومستقبلا. لكن السؤال الأكثر إلحاحا فى بريطانيا على خلفية ذلك الاتصال كان:«هل ستكون تيريزا ماى ماجى الجديدة؟«. فى إشارة إلى رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارجريت تاتشر التى كونت مع الرئيس الامريكى الراحل رونالد ريجان «ثنائيا سياسيا ايديولوجيا» غير المشهد الدولى فى الثمانينيات والتسعينيات. فالزمن ليس الزمن، وماى ليست تاتشر، وترامب ليس ريجان. وهذا يفسر حالة الفوضى والالتباس داخل الحكومة البريطانية إزاء أفضل طريقة للتعامل مع الإدارة الأمريكية الجديدة، خاصة أن بريطانيا تبلور إستراتيجية للتعاون مع أمريكا فى ضوء تداعيات تصويت البريطانيين مغادرة الاتحاد الأوروبى فى يونيو الماضي. فهناك حقيقتان ماثلتان أمام حكومة ماي، أولا أنها كانت الزعيم رقم 11 الذى اتصل به ترامب بعد انتخابه، وثانيا أن أول سياسى دولى استقبله ترامب فى مقر إقامته فى نيويورك بعد انتخابه كان زعيم اليمين القومى البريطانى نايجل فاراج، الذى دعا فى تصريحات ل«فوكس نيوز» إلى لقاء سريع بين ترامب وتيريزا ماى «لرأب الصدع» بين بريطانياوأمريكا، موضحا: «أن فريق ماى كان وقحا جدا إزاء ترامب، لكن مع ذلك يجب على ترامب مقابلتها سريعا... فأحد الأشياء التى يمكننا القيام بها هى تحسين ملموس للعلاقات التجارية وخفض الرسوم الجمركية. فهناك استثمارات ضخمة بين البلدين والمستقبل سيكون أكثر أشراقا... وما يتعين علينا القيام به هو اتباع المثال الذى لدينا منذ أكثر من 30 عاما متمثلا فى ريجان وتاتشر. فكلاهما فاز فى انتخابات كانت بمنزلة ثورة مضادة وكلاهما جعل العالم مكانا أفضل». ورغم أن وزير الخارجية البريطانى حاول تهدئة المخاوف «من وقوف لندن فى آخر الصف» فيما يتعلق بالاتصالات التى أجراها ترامب، داعيا قادة أوروبا إلى التخلى عن لغة الحسرة الجماعية والنظر إلى امكانات التعاون مع الادارة الامريكية المقبلة، إلا أن الحقيقة أن هناك تحديات كبيرة واختلافات واضحة بين لندن وإدارة ترامب المرتقبة فيما يتعلق بالكثير من القضايا. كما أنه ليست هناك علاقات مباشرة قوية بين لندن وترامب وفريقه. وعلمت «الأهرام» أن جونسون وجه انتقادات مباشرة إلى السفارة البريطانية فى واشنطن لعدم تقربها بشكل كاف من ترامب وفريقه بعدما أصبح المرشح الرسمى للحزب الجمهوري. وقال مصدر فى «داوننج ستريت» ل«الأهرام» إن لقاءات فاراج فى امريكا مع ترامب وفريقه الرئاسى لا تخص الحكومة البريطانية فى شيء، موضحا: «فاراج ليس لديه أى دور ونحن فى الحكومة لا نتحدث معه». وبينما تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى فإن اعتمادها على قوة التحالف بينها وبين واشنطن يصبح مركزيا للندن. لكن معضلة ذلك التحالف أن هناك الكثير من القضايا الصدامية المحتملة بين إدارة ترامب المقبلة وسياسات لندن التقليدية. وربما أهم ما يشغل بريطانيا وأوروبا اجمالا حاليا هو موقف ترامب من اتفاقيات التجارة العالمية، فتغيير تلك الاتفاقيات أو إلغائها يهدد بركود اقتصادى عالمى وتفكك قواعد التجارة الدولية المتبعة منذ الحرب العالمية الثانية ممثلة فى اتفاقية «بريتون وودز»، والتى يريد ترامب إلغاءها أو تعديلها لأنها لم تعد تخدم المصالح الأمريكية. ويقول السير نايجل شينوالد، السفير البريطانى السابق لدى الولاياتالمتحدة والأستاذ الزائر فى جامعة «كينجز كوليدج» فى لندن إن ترامب: «لا يحتاج لتنفيذ كل وعوده الانتخابية خلال الحملة لإرضاء القاعدة التى صوتت له وتنفيذ سياساته». ويتابع موضحا ل«الأهرام»: «فيما يتعلق بالناتو سيكون لدى ترامب كل الأسباب لمواصلة الطلب من الدول الأوروبية أعضاء الناتو فعل المزيد، فهذا مطلب الكثير من الرؤساء الأمريكيين السابقين. ومن المنظور البريطانى سيكون هذا مفيدا جدا لأنه سيعنى زيادة فاعلية الناتو... لكن من ناحية أخري، على ترامب أن يستوعب أنه لكى تعود أمريكا عظيمة من جديد، عليها أن تستفيد من حلفائها. أعتقد أنه اذا لم يفعل ترامب هذا فسيكون هذا بداية نهاية التحالف الغربى كما عرفناه خلال العقود الستة الماضية... لقد كانت أوروبا قلقة بالفعل من تقوقع أوباما داخليا، والسؤال الآن: هل سيواصل ترامب التقوقع بأمريكا أكثر وبوتيرة أسرع؟». كما تريد لندن استطلاع كيف ستؤثر العلاقة الشخصية القوية بين ترامب والرئيس الروسى فلاديمير بوتين على الملف السوري. فلندن استثمرت الكثير فى سياسات «سوريا من دون الأسد»، لكن ترامب ليس لديه أى رغبة فى ذلك ويريد عوضا عنه التركيز على هزيمة «داعش» وهذا قد يجبر لندن على تعديل أولوياتها أيضا لانتهاج سياسات أكثر براجماتية. وكما يقول شينوالد:«علاقات أوباما مع بوتين لم ينتج عنها أى تطور إيجابى فى أى قضية. وربما مع التقارب المتوقع بين ترامب وبوتين يمكن توقع تفاهمات فى سوريا وأوكرانيا والبلطيق وآسيا». وتقف بريطانيا على أرضية اختيارات صعبة بعد انتخاب ترامب. فدعمه العلنى لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى وقوله إن لندن ستكون فى أول الصف فيما يتعلق بإجراء اتفاقيات تجارة حرة مع واشنطن، يشجع تيريزا ماى على الهرولة لواشنطن وطلب معاملة تمييزية للندن، لكن هذه الاستراتيجية قد تكلف ماى تعنتا أوروبيا أكبر. فالاتحاد الأوروبى حذر بريطانيا قبل يومين من محاولة التفاوض على اتفاقيات تجارة حرة مع شركاء دوليين طالما مازالت فى الاتحاد الأوروبي، مشترطين تفعيل المادة 50 وبدء مفاوضات الخروج أولا قبل أى تحرك بريطانى مستقل. كما أن التفاؤل البريطانى بإجراء اتفاقية تجارة حرة بين لندنوواشنطن قد يكون مبالغا فيه. فترامب لا يضع فى سلم اولوياته توقيع المزيد من اتفاقيات التجارة الحرة. لقد تحدث ترامب مرارا عن «أمريكا أولا» و«الحمائية» و«الانعزالية» و«بناء الأسوار»، وما تتوقعه لندن وغيرها من العواصم الأوروبية هو أن الرئيس الأمريكى المنتخب سيركز، على الأقل فى بداية ولايته، على الوضع الداخلى الأمريكي. وهذا يضع على بريطانيا، وباقى أوروبا التزامات أكبر أولا لحماية أمنها القومي، وثانيا للتصدى لمشكلة اللاجئين ومقاومة التطرف الدينى واليمينى وحماية الاقتصاد العالمى من أى هزات عنيفة.