قبل شروق شمس يوم غد، الأربعاء، تكون الولاياتالمتحدة والعالم قد علموا اسم الرئيس الجديد. الكثيرون لا يريدون الخوض فى المجهول مع دونالد ترامب المرشح الجمهورى فى ظل رفض النخب السياسية التقليدية وأغلبية فى وسائل الإعلام الأمريكية للرجل وإعتباره كارثة على علاقة الولاياتالمتحدة بالعالم الخارجي. تمثل منافسته الديمقراطية هيلارى كلينتون استمرارا للتيار الرئيسى فى السياسة الخارجية الأمريكية فيما يخص الاشتباك مع الخارج والقيادة العالمية وهى السياسة التى تحرص عواصم عالمية عديدة على إستمرارها من باب تجنب مفاجآت التعامل مع رئيس مختلف لا يحمل خبرة كبيرة فى عالم السياسة ويتعامل مع العلاقات الدولية بمنطق المكسب والخسارة مثلما يفعل فى عالم «البيزنيس». يوجد، على سبيل المثال، انطباع عام فى الدول التى هاجمها ترامب مرارا فى حملته الإنتخابية، بسبب تهديدها لمكانة الولاياتالمتحدة إقتصاديا، بعدم القدرة على تحديد ما إذا كان عليهم أخذ تهديدات ترامب بسحب قوات بلاده من آسيا أو بدء «حرب تجارية» مع قوى كبرى مثل الصين على محمل الجد فى تلك المرحلة أم لا. ومؤخرا، قال باحث فى جامعة هارفارد إنه ربما يكون فى مصلحة الصين أن يصعد ترامب إلى سدة الحكم فى واشنطن لأنه يمثل بالنسبة للقيادة الصينية «انتحارى السياسة الأمريكية» الذى يريد هدم المعبد وبناء معبد جديد وهو ماسوف يصب فى مصلحة بكين بالقطع فى إطار المنافسة العالمية بين البلدين. ففى أوساط السياسة والمال يرى محللون أن ما يطلقه ترامب من تصريحات غير مسبوقة ضد دول أخرى لا يختلف عن أسلوبه المعتاد فى التعامل مع قضاياه الشخصية الجريئة وطريقة تعامله فى سوق العقارات التى تحمل قدراً من المخاطرة. فى المقابل، يلقى إنتقاد ترامب للسياسة الخارجية الأمريكية التقليدية شعبية فى الداخل، خاصة بين الطبقات العمالية التى ترى العالم يسحب البساط من تحت أقدام الصناعة الأمريكية وفى أوساط من يرون بلادهم تبدد تريليونات الدولارات على الحروب الخارجية والاتفاقات التجارية واستيعاب هجرات غير منظمة وإهمال الوظائف فى قطاعات واسعة من الصناعات التحويلية داخل الولاياتالمتحدة لمصلحة الخارج. كان ترامب قد إتهم كلينتون فى خطاب فى منتصف أكتوبر الماضى بأنها تقوم منظومة قوى عالمية تتلاعب بالإقتصاد الأمريكى ضد مصالح الطبقة العاملة وتستهدف تجريد الولاياتالمتحدة من ثرواتها وملء جيوب الشركات والقوى المالية العالمية، التى تمول مؤسسة كلينتون وبينهم أصدقاء مقربون للعائلة، وحماية مصالح السياسيين على حساب عامة الناس- وهو ما قوبل بهجوم كبير من الإعلام الأمريكى واعتبرته صحف كبرى مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست بمثابة إعادة لأفكار معاداة السامية من جديد. وتسوق حملة كلينتون أنها لن تكون لينة فى التعامل مع الصين، على عكس ما يقول ترامب، ويشيرون إلى أن وزيرة الخارجية السابقة لم تكن شخصية محبوبة أو مفضلة عند الحزب الشيوعى الصينى وسبق أن كانت من أوائل من حذروا من قيام الصين بالإستيلاء على مساحات فى منطقة بحر الصين الجنوبي. كما تشير مصادر الحملة إلى أن الشخصيات المرشحة، فى الغالب، لمنصب مستشار الأمن القومى الأمريكى ومن بينهم الدبلوماسى المخضرم وليام بيرنز أو الدبلوماسى المقرب من المرشحة الديمقراطية جاك سوليفان تؤمن بأهمية بناء التحالفات التى تخدم المصالح الأمريكية خاصة تلك التى يمكنها أن تواجه طموحات العملاق الأصفر. فى كتابه الجديد «من يحكم العالم؟» الذى يتصدر قوائم الكتب الصادرة حديثا، يرى نعوم تشومسكى عالم اللغويات الشهير أن هياكل المؤسسات الأمريكية معقدة وأن القرارات السياسية الكبيرة تتأثر كثيرا بعملية تركيز السلطة وطبيعة التفاعلات بين تلك المؤسسات فيما يتم تهميش أراء غالبية المواطنين، وهو ما يراه أمرا معتادا اليوم فى المجتمعات التى توصف بأنها أكثر ديمقراطية من غيرها! لو طبقنا تلك الرؤية على الإنتخابات الامريكية الحالية سنجد أن المؤسسات التقليدية تقف صفا واحدا وراء المرشحة هيلارى كلينتون للحفاظ على التوازنات الراسخة بين تلك المؤسسات وعدم الدخول فى مغامرة تجريب رئيس لم يختبر فى السياسة الداخلية أو الخارجية. وتعتقد نخبة من المفكرين الليبراليين أن ترامب يمثل خروجا على النظام الديمقراطى وقيم الليبرالية الغربية وهو ما يجعله محل ترحيب فى عدد من العواصم التى تنافس واشنطن على قيادة العالم مثل روسيا. ومن الناحية الاقتصادية، تصف نخب أمريكية وأوروبية وصول ترامب إلى الحكم بأنه سيكون بمثابة «صدمة» ويقول سايمون جونسون من معهد بيترسون للاقتصاديات العالمية أن «التأثير الذى قد يخلفه انتصار ترامب على الولاياتالمتحدة قد يكون أسوأ كثيرا. ففى حين تريد حكومة رئيسة الوزراء تيريزا ماى إغلاق حدود المملكة المتحدة أمام المهاجرين من الإتحاد الأوروبي، فإنها تريد استمرار التجارة مع العالم. أما ترامب على الجانب الآخر، فهو عازم على تقليص الواردات من خلال مجموعة متنوعة من السياسات، وكل منها تقع ضمن الصلاحيات التى يتمتع بها الرئيس. فلن يحتاج إلى موافقة الكونجرس لتركيب مكابح لاقتصاد الولاياتالمتحدة». ويعرب جونسون عن مخاوفه من طريقة تعاطى صناع القرار الأمريكيين مع تأثير قرارتهم على العالم الخارجي، ويقول «من الواضح أن الركود الناجم عن معاداة ترامب للتجارة من شأنه أن يدفع بأوروبا إلى الركود الكامل، وسوف يؤدى هذا فى الأرجح إلى نشوب أزمة مصرفية بالغة الخطورة..». يقول الباحث المرموق ستيفن والت إن «المجتمعات الليبرالية فى ورطة اليوم لأنها عرضة للخطف من قبل الجماعات أو الأفراد الذين يستغلون الحريات ذاتها التى تقوم عليها المجتمعات الليبرالية. كما فى حالة دونالد ترامب (وكما الحال مع جان مارى لوبان، رجب طيب أردوغان، خيرت فيلدرز، وأصحاب المشاريع السياسية الأخرى المماثلة)، قادة وحركات قد تظهر الالتزام بمبادئ الليبرالية ومبادئ المجتمع المفتوح ثم تُقدم على استخدامها لحشد قاعدة شعبية..». ويرى والت أن القارة الأوروبية بكل تعقيدات الأوضاع فيها اليوم تريد أن تحافظ الولاياتالمتحدة على سلامة «نظامها الليبرالي» من أجل ضمان بقاء أوروبا متماسكة وحتى لا تنحرف السياسات الأوروبية الداخلية فى إتجاه جديد فى حال صعود مرشح يقدم أفكارا حمائية أو شبه سلطوية فى الدولة التى تتربع على قمة التحالف السياسى والإقتصادى والعسكرى الغربي. ومثل هذا الطرح يفسر إسراع الصحف الكبرى فى بريطانيا ودول أوروبية أخرى لإعلان دعمها لهيلارى كلينتون رغم أن الشأن داخلى بالدرجة الأولى حيث يلوح شبح ميراث الحروب العالمية فوق القارة الأوروبية التى تريد بقاء معادلة القوة الأمريكية فى العالم على حالها خاصة بعد حالة التفسخ التى تضرب الوحدة الأوروبية على أثر إستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى وما خلفه من تصدعات ضخمة فى المنظومة القائمة لعقود طويلة. ويرى خبراء بارزون فى واشنطن أن تداعيات الانتخابات الرئاسية على السياسة الخارجية يمكن أن تكون متباينة نتيجة صلاحيات الرئيس فى الدستور الأمريكي. فالرئيس الأمريكى لديه حرية حركة كبيرة فى ملف السياسة الخارجية. فرغم أن الكونجرس يملك حق إعلان الحرب رسميا أو التصديق على المعاهدات، فإن الرؤساء ربما يستخدمون أو يمتنعون عن استخدام القوة العسكرية دون موافقة صريحة من الكونجرس مثلما يمكنهم الموافقة على اتفاقات دولية أخرى غير المعاهدات وتعيين موظفين كبار فى البيت الأبيض، وتغيير السياسة الخارجية للولايات المتحدة من خلال المراسيم التنفيذية. ويترجم تلك الفرضيات الباحث الشهير ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى فى نيويورك فى مقال أخير لخدمة بروجيكت سينديكت قائلا: «من المرجح أن تقوم إدارة كلينتون بترجمة هذه الحرية إلى إنشاء منطقة أو مناطق آمنة فى سوريا، وتوفير أسلحة دفاعية لأوكرانيا، واتخاذ موقف أكثر حزما تجاه كوريا الشمالية فى الوقت الذى تواصل فيه تنمية السلاح النووى والصاروخى الخاص بها». إلا أن الباحث والسياسى الأمريكى المرموق يرى أنه يصعب التكهن بما سيفعله المرشح الجمهورى فى حال فوزه ويقول: «من الصعب تخمين ما سيقوم به ترامب. فهو بعد كل شيء، سياسى غريب، لذلك لا أحد يعرف كم من خطب حملته الانتخابية ستُترجم إلى سياسات. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يتوقع أن تنأى إدارة ترامب بنفسها عن بعض الحلفاء التقليديين فى أوروبا وآسيا وأن تتخذ موقفا متحفظا من الشرق الأوسط». ويتجنب كثير من أعضاء النخب الأمريكية مناقشة مواقف الإدارة الحالية، والمواقف المستقبلية من جانب هيلارى كلينتون، تجاه الحرب على الإرهاب ونتائج السياسات الأمريكية الحالية فى الشرق الأوسط رغم الجدل الكبير حول منهج إدارة أوباما فى الصراع الدائر فى سوريا والعراق وليبيا حيث لا يمكن تحديد موقف واضح للبيت الأبيض من التعامل مع الجماعات المتشددة والدموية فى سوريا، على سبيل المثال، فلا هى تتدخل لوضع حد للميلشيات المسلحة أو التعاون مع حلفائها لدحر تنظيم داعش ولا هى تريد لغيرها القيام بمواجهات حاسمة ضد تلك التنظيمات مما يثير الشكوك حول نوايا الولاياتالمتحدة وتوظيفها للأوضاع المأساوية فى الشرق الأوسط من أجل تحقيق أهداف مرحلية من بينها الضغط على الحلفاء التقليديين فى قضايا بعينها. وتتهم حملة ترامب الإدارة الحالية وكلينتون بالتراخى فى المواجهة وهو ما فتح الطريق لتنظيم داعش ليتمدد فى مساحات شاسعة وأيضا ترى أن السياسات الحالية التى تتبعها واشنطن بإحتضان تنظيمات متطرفة مثل جماعة الإخوان تمثل إتجاها خاطئا ومن الأفضل التحالف مع القوى المعتدلة فى العالمين العربى والإسلامى من أجل محاربة الإرهاب وليس اللعب بورقة التنظيمات المتطرفة التى تمثل خطرا كبيرا على الولاياتالمتحدة والحضارة الغربية. ربما لو كان المرشح «المتمرد» فى مواجهة هيلارى كلينتون هو شخص آخر بخلاف دونالد ترامب ربما كانت نتيجة السباق مختلفة وتوقعات شعوب العالم منه مختلفة أيضا حيث البيئة الدولية مهيئة لقبول شخصيات متمردة على المؤسسات التقليدية تهدف إلى مراجعة كثير من السياسات الحالية التى أدت إلى تفشى ظاهرة الإرهاب عالميا وتوسع أنشطة الشركات العابرة للحدود لتسيطر على مفاصل الإقتصاد الدولى وتآكل الطبقة الوسطى وهو إتجاه عالمى لا يرتبط فقط بالإنتخابات الأمريكية ولا يؤثر فيه كثيرا من يحسم المعركة غداً!