احتفلت المجر خلال الأيام القليلة الماضية بالذكرى الستين لانتفاضة بودابست فى عام 1956 بعد سلسلة من المواجهات الدموية التى راح ضحيتها الألوف من الجنود السوفيت ومن أبناء الشعب المجرى الذين كانوا أعلنوا عن رفضهم للوجود السوفيتى فى بلادهم. ولكم كان الأمر بالغ الغرابة أن يسهم العدوان الثلاثى ضد مصر فى أكتوبر 1956 فى سرعة قمع الانتفاضة المجرية، بعد سلسلة من المساومات والمداولات التى شارك فيها زعماء كثيرون ومنهم الرئيس اليوجوسلافى جوزيف بروز تيتو. شرارة الأحداث فى المجر اندلعت عقب إعلان الزعيم السوفيتى نيكيتا خروشوف فى خطابه «السرى» امام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى السوفيتى فى فبراير 1956 عن «إدانة عبادة الفرد، وفضح كل الممارسات القمعية الدموية للزعيم جوزيف ستالين». وفيما بدا الخطاب مفعما بالكثير من الآمال فى غد مشرق وضاء، وسياسات اصلاحية جديدة، فقد ترامت اصداؤه عالية مدوية بين أرجاء بلدان المعسكر الاشتراكى ولا سيما بولندا والمجر، حيث العداء والكراهية يبدوان الأكثر حدة تجاه رفض الوجود السوفيتى هناك. غير أنه وإذا كانت الاضطرابات والمواجهة اقتصرت فى بولندا، على بعض تحركات عمال صناعة السيارات والاشتباكات المحدودة التى سرعان ما تمكنت الحكومة البولندية بالتنسيق مع موسكو من إخمادها فى يونيو 1956، فقد ترامت صاخبة مدوية فى المجر التى سرعان ما تحولت إلى ثورة وطنية سقط خلالها الألوف من الضحايا. كانت القيادة المجرية بقيادة ماتياش راكوشى أمين عام الحزب «الشيوعي» المجرى فى ذلك الحين والذى يقولون إنه كان مغرقا فى ولايته لستالين منذ تعيينه فى عام 1945، غير ذات شعبية فى الأوساط المجرية، مما كان مبررا لتغييرها بعد وفاة ستالين بقيادة إصلاحية، وجدها نيكيتا خروشوف فى شخص ايمرى ناجى أو بالمجرية انادب الذى جرى تعيينه رئيسا للحكومة. وما أن جاء ايمرى إلى موقعه الجديد، حتى سارع رغم كونه شيوعيا، باتخاذ الكثير من الخطوات الليبرالية، ومنها تقنين نشاط منظمات المعارضة والأحزاب المعادية للشيوعية، والاعلان عن إقرار نظام تعدد الاحزاب، الأمر الذى ساهم فى زيادة حدة التوتر مع موسكو، واضطرها إلى الإطاحة به وإعادة راكوشى إلى قيادة الحزب الشيوعى المجرى مرة أخري. وبعد سلسلة من التغييرات التى أجرتها موسكو فى النسق الأعلى للسلطة فى المجر لم تسفر عن النتيجة المرجوة لها، اندلعت المظاهرات التى كانت فى معظمها من طلبة الجامعات والمدارس وشباب العمال، فى شوارع بودابست ترفع الشعارات التى تطالب بالحرية، وجلاء السوفيت عن المجر وإجراء الاصلاحات الراديكالية، بينما تشكلت الفصائل المسلحة التى سارعت بفتح السجون والإفراج عن المعتقلين السياسيين. وقد آثارت هذه الأحداث حفيظة القيادة السوفيتية فى موسكو، ولذا سرعان ما أوفدت إثنين من أبرز قيادات الحزب الشيوعى السوفيتى إلى بودابست فى 24 اكتوبر فى إطار قرار يقضى بإقالة ارنو جيرو صاحب الميول الستالينية، من قيادة الحزب، فى إطار إتفاق مع ممثلى الحزب الشيوعى الصينى والرئيس اليوجوسلافى جوزيف بروز تيتو. وبعد سلسلة من المناورات الدبلوماسية التى قام بها خروشوف ورفاقه فى قيادة الحزب الشيوعى السوفيتى خلال مباحثاتهم مع ممثلى الصين وقيادات الأحزاب الشيوعية فى بلدان حلف وارسو، توصلت موسكو إلى قرار إقالة ايمرى ناجى الذى سرعان ما تحول إلى بطل شعبى تقديرا لما اتخذه من قرارات إصلاحية ومنها رفضه لاستخدام القوة العسكرية لقمع الانتفاضة المسلحة فى المجر، لم تنل فى حينه رضاء القيادة السوفيتية فى موسكو، وما كانت سببا فى اعتقاله ثم إعدامه لاحقا. وتشير الأدبيات إلى أن ايمرى ناجى كان قد بادر بإعلان رفضه لتدفق جحافل الدبابات السوفيتية والتى كان عددها يقرب من ثلاثة آلاف دبابة على الحدود المجرية، مما كان مبررا لإقالته ولجوئه إلى مقر السفارة اليوجوسلافية فى بودابست، هربا من محاولات اعتقاله بعد اقتحام الدبابات السوفيتية لبودابست فجر الرابع من نوفمبر 1956 ، ونجاحها فى قمع الانتفاضة إثر مواجهات دموية عاصفة أسفرت عن سقوط الألوف من القتلى من الجانبين، هناك من يقول إنها بلغت 25 ألفا من المجريين وسبعة آلاف بين الجنود السوفيت. وتقول المصادر التاريخية أيضا إن المقاومة لم تنته بالإستيلاء على بودابست فى الرابع من نوفمبر 1956، حيث انتقلت إلى الأقاليم التى ظلت متمسكة بمواقع المقاومة حتى الرابع عشر من نفس الشهر. وفى محاولة لإحتواء الموقف ومراعاة مدى شعبية هذا الزعيم الوطنى ايمرى ناجى بين صفوف المجريين، وبعد مفاوضات استمرت لما يزيد على الأسبوعين، أعلن يانوش كادار زعيم الحزب الشيوعى المجرى كتابيا عن وعده بعدم ملاحقته وزملائه، وهو ما لم يتمكن من الإلتزام به . ومن اللافت أن أحداث ذلك الزمان فى منطقة الشرق الأوسط عقب إعلان الرئيس جمال عبد الناصر عن قراره التاريخى بتأميم قناة السويس فى يوليو 1956، وتحديدا العدوان الثلاثى الذى تورطت فيه بريطانيا وفرنسا إلى جانب إسرائيل ضد مصر فى 23 اكتوبر من نفس العام، ساهم إلى حد كبير فى صرف أنظار بلدان أوروبا الغربيةوالولاياتالمتحدة عن الأحداث فى المجر، وحال دون توقف العالم عند ابعاد ما تضمره موسكو لإخماد الانتفاضة المجرية، من مخططات عسكرية تشارك فيها قوات حلف وارسو مع القوات السوفيتية لاقتحام بودابست وإخماد ثورتها الشعبية. وكان خروشوف قد حرص آنذاك على انتزاع موافقة منتقديه من ممثلى الاحزاب الشيوعية العالمية وفى مقدمتهم جوزيف بروز تيتو وممثلو الأحزاب الشيوعية فى بلدان حلف وارسووالصين وألبانيا على قراره باستخدام القوة ضد انتفاضة المجر. ولذا فقد بادر آنذاك باصطحاب رفيقيه فى قيادة الحزب الشيوعى السوفيتى مالينكوف ومولوتوف فى زيارتين إلى كل من وارسو وبوخارست، أعقبهما بأخرى إلى يوجوسلافيا التى كان يتوقع فيها اصداماب مع تيتو. إلا أنه وكما قال، فوجئ بموقف مغاير، تمثل فى إعلانه عن أن موسكو على حق وأنها يجب أن تتخذ قرار الدفع بقواتها إلى بودابست فى أسرع وقت ممكن. وبهذه المناسبة - مناسبة الذكرى الستين لثورة المجر الشعبية التى أعلنتها بودابست الرسمية مناسبة وطنية تاريخية تحتفل بها المجر فى مثل هذا التاريخ من كل عام، خرج عشرات الألوف من أبناء المجر إلى شوارع العاصمة للمشاركة فى الاحتفالات الرسمية التى اقيمت بهذا الصدد. وكانت احتفالات هذا العام قد جرت بمشاركة الرئيس البولندى اندرى دودا، تلبية لدعوة فيكتور أوربان رئيس الحكومة المجرية ، فى إشارة لا تخلو من مغزي، تعيد إلى الاذهان أن بولندا كانت أول من أعرب عن معارضته للوجود السوفيتى عقب إعلان الزعيم السوفيتى نيكيتا خروشوف، عما كان يسمى بربيع موسكو. وكانت موسكو وفى تعليقها على الاحتفالات بهذه المناسبة قد أشارت إلى أن أجهزة المخابرات الغربية وقفت فى عام 1956 وراء استغلال الرغبة المشروعة من جانب أبناء الشعب المجرى فى الحرية والإصلاح لتمرير مخططاتها ضد الاتحاد السوفيتى السابق . وفى برنامج «أخبار الأسبوع» الذى يقدمه دميترى كيسيليوف المدير العام لوكالة«سبوتنيك» القريب من الكرملين، قارن ما حدث آنذاك من تحركات جماهيرية وانتفاضات شعبية بما سبق وشهدته بعض بلدان الاتحاد السابق من «ثورات ملونة» فى مطلع القرن الحالى والتى قال إن الدول الغربية وفى مقدمتها الولاياتالمتحدة وقفت وراءها، وهو ما آثار احتجاج بودابست التى استدعت السفير الروسى فى المجر لتأكيد أنها لن تقبل أية إشارة تنال من احترام الثورة المجرية.