أن تكون الجلسة لمناقشة عمل أدبي، ولا تنقطع البهجة عن المكان، فإما أن نكون أمام عمل « جميل « ومؤثر ، أو أن مناقشي العمل يتمتعون بالحضور والجاذبية والعمق .. والحقيقة أننا في حفل توقيع الرواية الأولى للزميل محسن عبد العزيز.. فزنا بكليهما.. « إذا أعجبتني الرواية سأناقشها كما طلبت ، واذا لم تعجبني، فلن أفعل.. ما يصحش!.. هكذا اتفق د. جلال أمين مع الزميل محسن قبل قراءة الرواية، وهنيئا له أن قبل المفكر الكبير بمناقشة أولى أعماله الروائية.. .............................................................. أكثر من عشر ورقات» فلوسكاب» دوًن بها ملاحظاته وكأنه قد أعد دراسة مصغرة عن الكتاب، وبدأ يتحدث عنه بسلاسة وعذوبة ناصحا الجميع « بثقة» بقراءته، واصفا إياه بالسيرة الذاتية. لم يهتم إن كانت لصاحب الكتاب أم لغيره . ما اهتم به هو أن الكاتب «حكاء ماهر» يلتقط فقط ما له مغزى، فكل موقف وقصة سردها كان لها مغزى إنساني يستشفه القارئ دون أن يشير له الراوي بتاتا. د. جلال اندهش من جرأة محسن في طريقة كتابة فصول الرواية ، إذ تميزت بالقصر غير المألوف في كتابة الروايات، حتى أن بعض الفصول جاء في فقرة، أو نصف صفحة، لكنها كانت بالفعل تجسد حالة مكتملة بذاتها. من بين اللفتات التي اهتم بها د. جلال في الرواية ، توصيف نظرة القرويين إلى الموت والتي تختلف عن نظرة أهل المدينة، ويقرأ علينا تلك الفقرة من الكتاب، بأدائه المعبر:»الموت في القرى شيء عادي، وربما ليس له سبب .. ففي القرى كل شيء يموت حولك ، من المواشي إلى الحمير، والجمال والأحصنة والكلاب والطيور والدجاج . أينما تسير ترى الجثث النافقة.. في قريتي أيضا لا يكذبون على الأطفال ويقولون: سافر الميت.. إنهم يقولون : مات». من اللقطات التي أدهشت د. جلال أيضا هو حديث الكاتب عن لقائه بحبيبته ، حيث يكفيه تماما أن يسير إلى جوارها في الشارع دون أن يتحدثا بكلمة واحدة، وتتلامس تنورتها مع جلبابه، ليبلغ منتهى السعادة ،وهنا داعب محسن بدهشة: أهذا كل ما كان يسعدك ؟! لتضج القاعة بالضحك ، ويتلون وجه محسن بألوان الخجل، من فرط براءة أحاسيس تلك الأيام. من بين المشاهد التي توقف عندها أيضا ،وأعجب بما يفيض منها من مشاعر إنسانية، هو مشهد الراقصة التي جاءت القرية لأول مرة ، وكيف تعلقت العيون بجسدها، وانهالت عليها الجنيهات وهي ترقص على المسرح، تغمرها النشوة، لكنها في آخر الليل نزلت لترقص على أرض الشارع، والكل متحلق حولها في دائرة كبيرة.. الآن هي لم تعد ترقص من أجل الجنيهات ،بل ترقص من أجل الحب الذي وجدته في العيون، فأخذت ترقص بحنان، تستمد الدفء النابع من هؤلاء الفقراء أمامها. بالطبع لم يغفل د. جلال التعليق على الشخصيات المتناقضة للمشايخ في الرواية ، فما بين شخصية متطرفة، كان أول من ألبس زوجته النقاب الاسود، ويغيظ « النصاري» بالصياح في الميكروفون، كان هناك في المقابل شخصية الشيخ الذي يرتاح له الناس ولتلاوته للقرآن الكريم، حتى أن الأميين يتمكنون من فهم روح الآيات ، دون أن يعرفوا معنى كلماتها ومفرداتها. وبرهافة حس، استنكر د. جلال على محسن –هذا الشيطان الصغير – أن يقول ما قاله لأمه المريضة وسأله: كيف تجرؤ؟! حتى أنه رفض ذكر العبارة الواردة على لسانه في الرواية من فرط قسوتها- وقال: كان من الطبيعي أن يظل الراوي معذبا طوال حياته بعد أن ماتت أمه، وأن ينزف قلبه دما بعد أن أصبح غير قادر على تذكر ملامحها، رغم تذكره مواقفه وحكاياته معها! وهنا كشف د. جلال أنه تذكر حاله، فهو أيضا لا يستطيع تذكر ملامح أمه، خاصة أن التصوير الفوتوغرافي لم يكن منتشرا في زمانهم. ملحوظة: العبارة التي رفض د.جلال ذكرها كانت قول الراوي لوالدته المريضة:» يارب اللي يمرض ما يقوم من المرض تاني».. وعلى استحياء شديد، وتردد بالغ، يستأذن مفكرنا صاحب الرواية اذا ما كان بإمكانه الإشارة الى بعض المثالب في الرواية، فكان له تعليقان :الأول يتعلق بالفصلين الأخيرين ، حيث يجد أنهما غير متناسبين مع أجوائها أو مذاقها أو إيقاعها، لكنه مع ذلك أوضح أنه قد يحدث أحيانا أن يكون للمؤلف وجهة نظر، واستشهد بكتاب السيرة الذاتية للمفكر لويس عوض «أوراق العمر «، إذ كان به فصل عن قصة ريا وسكينة! ومع ذلك يظل الكتاب بديعا ، وغيره الكثير من النماذج، وهنا كان للشاعر والكاتب الصحفي محمد حربي- مدير الندوة- تعليقا دفاعا عن صديقه قائلا:» بصفتي قروي كمحسن، فأنا أفهم أن دس فصل» رافع بيه» في الرواية، ما هو إلا نوع من»خبث الفلاحين»، إذ رأى أنه بهذا الفصل، يمهد لعمل روائي جديد ! حنين واغتراب ضيفنا الثاني كان د.عمار علي حسن، وهو إلى جانب تخصصه في التحليل السياسي، روائي له العديد من الأعمال القصصية والروائية. والاهم أنه كان من أول من تلقف إنتاج صديقه من قصص قصيرة، فيشتبك معه بالنقد والتحليل، كاشفا عن أن تلك الرواية جاءت في وقت كان بالفعل يعاني جوعا حقيقيا لقراءة عمل عن الريف، واستطاعت جذب اهتمامه رغم أنه تلقاها في وقت لم يكن حاضرا نفسيا. د. عمار اعتبر الرواية ذاكرة للقرية المصرية ، من بيوت وحقول ومبان وملاعب ومساجد، ولأنها قائمة على الاستدعاء فملامح الشخصيات غير مكتملة، لأنه من المستحيل استرجاعها جميعا، أما القيمة المسيطرة على الرواية فهي الاغتراب، ويراها متكررة في أعمال «القرويين»، حيث الإحساس بالضياع والرغبة في التحقق والبحث عن موضع قدم في زحام المدينة. الأمر الثالث هو أن الرواية تدور في سبيعينيات وثمانينيات القرن الماضي وصولا إلى الألفية الجديدة، وترصد ما لمسه شخصيا من رغبة جيله في الهجرة، خاصة في المنيا ، حيث انتشرت الهجرة للعراق وليبيا، والراوي تتبع مسار تلك الشخصيات فمنها من تكسر حلمه ورجع خائبا ،ومنها من تحققت أحلامه نسبيا، ومنها من فلح بالفعل، فحمس الباقي للسفر. يرصد عمار اللغة في الرواية فيصفها ب» العفية والشاعرية»، خاصة الحالة الرومانسية «المعتقة» التي يعيشها بطل الرواية، سواء في حنينه البالغ لقريته، أو في حرمانه من الأم منذ فترة الطفولة، وهو ما جعله يبحث عن الونس والألفة والدفء طول حياته، فأصبح معذبا حتى وهو يلهو ويلعب الكرة، ثم تعامل مع شقائه في المدينة بكبرياء، واستمر تمرده حتى عندما دخل عالم الصحافة. وأشار د. عمار إلى أن العمل رغم رصده ظاهرة مهمة ، وهي ظاهرة الملتحين الذين زحفوا على القرى في السبيعينات ثم استوت الظاهرة على سوقها في أواخر الثمانينات، فقد تمنى أن يسهب في رسم ملامح تلك الظاهرة لا أن يمر عليها مرورا عابرا. د. عمار وصف بناء الرواية بأشتات منفصلة من أماكن وشخصيات ومواقف قد يصلح بعضها ليكون قصصا قصيرة في حد ذاته ، لكن الراوي هنا هو بمثابة الحبل السري الرابط بينها، وهنا علق د. عمار بأنه في الغالب ما تكون الأعمال الروائية الأولي لأصحابها متأثرة بمجموعاتهم القصصية، فتكون في منطقة وسطى بين عالم القصة القصيرة بتكثيفه وشحناته المتدفقة، وبين عالم الرواية الرحب، وهنا وجه د. عمار نصيحة لصديقه ، فقال إن معظم الأعمال الروائية الأولى تتمحور حول ذوات أصحابها، ومن لا يمتلك القدرة على الخروج من هذا الإطار، فقد مات مشروعه الأدبي في المهد، فتكون روايته الأولى هي الأخيرة، بعد مناقشات ومداخلات من الحضور الكثيف، انتهت بنا الى مناقشة إشكاليات عديدة في الكتابة الإبداعية ، والتصنيفات الادبية، وطول وقصر الأعمال وغيرها، فاجأنا جلال امين -بأدب جم -برغبته في التعليق على ما سمع، فقال بامتعاض أضحك الجميع: «إنتم شاغلين نفسكم دي رواية ولا مش رواية ليه»؟! يكفينا إن نقول أن العمل الذي بين أيدينا هو كتاب جيد ملىء باللمحات الإنسانية اللطيفة خفيفة الظل، وفي النهاية يظل التجريب هو أساس أي ابداع.