من أسماء الأمهات التى خلدتها الحكايات الشعبية فى التاريخ العربي، على سبيل المثال لا الحصر، بلقيس ملكة سبأ، والزبَّاء ملكة تدمر، والأميرة خضراء الشريفة بنت الأمير قرضاب حاكم مكة، وزبيبة أم عنترة بن شداد العبسي. واهتمت السير الشعبية بشخصية أم البطل الشعبى لأنها تكون غالبا نقطة انطلاقه نحو مستقبله الذى سيعيشه، فهل كانت الأم فى هذا السياق تمثل قيدا على مسيرة ابنها بطل السيرة الشعبية، أم سندا له. وفى «إلياذة العربى»، سيرة «عنترة بن شداد العبسي»، تحتشد بأفكار شديدة الثراء ونتائج لافتة للنظر، كما أنها من أهم السير الشعبية العربية التى مازالت حية. و«زبيبة» الجارية السوداء (أم عنترة) أو «تانا» ابنة «ميجو»، هى سيدة حرة حبشية، أخذتها قبيلة عَبس أسيرة فى إحدى غزواتها ضد بنى جُديلة، وتنازل «شداد العبسي» عن نصيبه فى غًنيمة الغزوة فى مقابل حصوله عليها هى وولديها «جَرير» و«شَيبوب»، وكانا طفلين وقت أسرهما، وألزمهما برعاية أغنامه وإبله، وفى صراع مع حياة الأسر والظروف الغبراء، ولدت زبيبة طفلها «عنترة» من سيدها «شداد»، وجاء جسده حالك السواد فَتنكَّر له أبوه اشداد«، لسواده، وشبَّ عنترة بين أخويه فى رعى الغنم، وضاعت منزلته بين أقرانه لسواده، وكان اسمه منذ ولادته اعنترة بن زبيبةب. و«عنترة» فى اللغة هو المَثل الذى يُضرب للشجاعة، كما اشتق لسان عامة الشعب منه مفردات كثيرة التى تتصل بهذا المعنى عن قريب أو عن بعيد، فالشخص القوى يصفونه ب «المُتعنتر»، والحِمل الثقيل الذى لا يقوى على حَمله إلا من أوتى قوة عنترة يُطلق عليه «حِملُ متعنتر»، كما أن لِباس النساء الذى يُبرز ثدى المرأة ويقويه يسمى «عَنتري». وكانت «زبيبة» حجر عَثرة فى حياة «عنترة»، ابنها المغلوب على أمره. ففى الفصل الثانى من رواية «أبو الفوارس عنترة»، للأديب «محمد فريد أبو حديد»، حدَّث عنترة أخاه «شيبوب» وهو يغرس رمحه بحنق فى الرمال: إنها أمى التى قذفت بى إلى هذه الأرض لأرعى إبل شداد، ولأحميها من الذئاب.. أمى زبيبة، قذفت بى إلى بنى عبس، لأحارب من أجلهم، وأحوز لهم الغنائم، ثم ينظرون إلى بمؤخر أعينهم قائلين: «هذا ابن زبيبة السوداء، هذا عبد شداد». وفى الفصل الثالث ركز المؤلف على الغُصَّة والمرارة فى حلق عنترة وهو يحاور أمه متبرماً من حياته التى يعيشها تحت العبودية: إمسكى أيتها المرأة دموعك، التى تسحر قلبي، فأجيبى سؤالى «أأنا ابن شداد حقاً؟» فترد الأم بين شهقاتها: «إنك ابن شداد يا ولدي.. وما كنت يوماً أكذبك، لحظتها دموع عنترة وقال بصوت مخنوق، وراح يمسح بحنو على رأس أمه: «لا عليك يا أمى فقد قسوت عليك!!». حضنته زبيبة وهى تئن قائلة: «ولدي... ولدي». ونتيجة لصراع النفس البشرية مع الحقيقة الواقعة، اعتبر عنترة أمه «زبيبة» المُعَوِقَة فى مسيرة حياته، لكن الحقيقة ان المسكينة زبيبة لم تختر لون بشرتها، ولا رحَّبت بالأسر تحت رحمة العبودية لسيدها شداد، كل هذه الظروف ألجمتها عن المقاومة، وجعلت منها طائراً مكسور الجناح ، تقبلت العجز والهوان، لكن تمرد ابنها البطل فك رباط لسانها فتكلمت، وراح البطل العبسى يعبر عن مشاعره الجيَّاشة، وكشَّر عن أنيابه، وتحرَّق لنيل حقوقه الإنسانية باعتراف والده بنسبه. وفى النهاية، نجد أن زبيبة ساندت موقف ابنها الفارس المغوار، الذى ملأ أصقاع الأرض بقدراته الحربية التى لا تضاهى، وكانت أمه تشجعه وتذكره دوماً بحقه فى اسم والده شداد، كما أرضعته تمردها، وسخطها على حياة العبودية، وشجعت على ترعرع علاقة الحب الطاهر بينه وبين معشوقته «عبلة» ابنة عمه منذ طفولته، وعبلة كانت ترمز للتحرر.