يمكنني القول هنا.. بثقة، وقلب مطمئن، إن لوحات الفنانة «إيفلين عشم الله» «عالم من البهجة»، لا لأنها مفعمة بألوان مفرحة فقط، ولا لاحتفائها بالرموز الشعبية المدهشة، ولا لأفكارها العميقة الافتة، بل لأنها «نافذة رحبة على روح مصر السمحة»، وتجلياتها أيضا. فنطل منها على أجمل ذكريات إنسانية نسجها مجتمعنا، وأنبل عادات وتقاليد الطبقة المتوسطة المصرية، التي تضررت منظوماتها الاجتماعية والأخلاقية بدرجة مؤلمة في العقود الأخيرة. لكنها وقفت بريشتها المتحمسة، وبالمسرَّة الكامنة في ألوانها، لتتصدى للهجمات الشرسة التي تعرض لها مجتمعنا عبر أربعة عقود خلت، ولا تزال متأهبة «بيقظتها الإبداعية»، و«البالِتَّة» جاهزة في يدها لتلوين المستقبل بألق القيم الحقيقية، وتتوعد بقبضتها كل من يقترب من «روحنا السمحة». ورغم اختلافها معي على المصطلح، وإصرارها على أن المسألة أعمق من ذلك بكثير، فظني أن الموتيفات الشعبية سكنت وجدانها منذ بداياتها، مثلما انتثرت في لوحاتها، وملأت روحها بدهشات متداخلة مثَّلت لها مددا لاينقطع، كونها تشكِّل «النُواة الصلبة لأمتنا»، ومكمن فرحها المتجدد، ومناط إبداعها العبقري في مختلف الفنون. وهذا لم يأت من فراغ. فقد نشأت في مدينة دسوق، بكفر الشيخ، هناك.. حيث يبلغ النيل أعقل مراحله، وأبهى اتساعاته، ووفرة متنزهاته التي تفتح وعيها في مداها الرحيب، وتشربت روحها تجليات مولد «سيدي إبراهيم الدسوقي» الشعبية. وما أن أنهت دراسة «فنون جميلة» في الإسكندرية،هبطت إلى القاهرة لتشارك بدأب في تأسيس نقابة الفنانين التشكيليين، وتصبح جزءا من جماعة الفنانين والكتاب بأتيليه القاهرة، وتكون من مؤسسي الحركة التشكيلية المصرية، ثم تولَّت إدارة متحف الفن الحديث، وتنقلت من مسئولة إلى أخرى، لكنها لم تترك فرشاتها، وظلت أسيرة مخيلتها، وشاركت في معارض جماعية، وأقامت معارضها الخاصة، وشاركت في مؤتمرات ومهرجانات دولية للفن التشكيلي. بيت «إيفلين عشم الله» في وسط القاهرة يستقبلك بمظاهرة من البهجة، يقودها أفراد الجماعة الشعبية من «باب الشقة» ويصحبونك في رحلة للدهشة من تفاصيل اللوحات إلى كل مفردات الأثاث والموتيفات التي تجلس هي بينها «أيقونة للجمال والصدق». هل تعتبرين نفسك من الفنانين الذين استطاعوا استلهام «الموتيفات الشعبية» في أعمالهم بشكل مميز؟ أنا ضد التسميات.. ولا اعتقد أن هناك ما نطلق عليه «موتيفة شعبية». لأن المسألة من وجهة نظري أعمق من هذا بكثير، لأني نشأت في حارة سد اسمها حارة الملاحين في دسوق، كان الناس فقراء للغاية، والبيت الوحيد اللي كان فيه مياه هو بيتنا، وكان الناس تلقائيين، الجيران الذين تربيت وسطهم، كانوا يضعون الكف رمز الخمسة وخميسة في كل مكان، وليس هذا سبب رسمي للكف في لوحات كثيرة، لكنه ظل في وجداني، كأنه استبطان للشغل من الذاكرة، وقد عشت طفولتي في مدينة دسوق التي تشهد سنويا «مولد سيدي إبراهيم الدسوقي» وهو مولد كبير جدا، وكنت أتجهز له نفسيا قبل بدايته بأسبوعين لاستقبال المولد وحالة الزخم البشري، و«سيدي ابراهيم الدسوقي» له مريدون في العالم العربي، وكانت حالة غريبة جدا أن تجدي مغاربة يرتدون فوق رءوسهم القشابية المصنوعة من صوف الجمل خاصه في الشتاء في شمال الدلتا، وكان كرنفالا عظيما جدا، والأهم بالنسبة لى هى الحالة الاحتفالية والفانتازيا التى يقيمها الناس في هذا الكرنفال المتنوع، بين خيام سيرك عاكف، وسيرك الحلو، الأسود والحيوانات المتوحشة، حالة غريبة جدا في بلد لا تعرف غير حيوانات الغيط الأليفة، وألعاب العُقلة، ونصبات الثلاث ورقات، وبتوع الحظ والغجر اللي بيشوفوا الودع، ولبس الدروايش المرقّع، والسبح والطراطير الملونة،مشهد يشكل حالة من الدهشة المعاشة. هل كان المولد فقط هو مصدر الإلهام الأول؟ هناك زخم آخر، هو زخم الغيطان، فدسوق مدينة محاطة بالقرى، لذا لاتخلو أبدا من الفلاحين الذين يجعلون المشهد مدهشا، ولا أنسى منظر الشجر في الغيطان، أشجار الجميز والجوافة، حيث كنت أقضي الصيف عند خالتي، وزوجها كان يعمل مهندسا في التفتيش الزراعي في أبو غنيمة، وكانوا يعيشون في فيلات مخصصة للمهندسين حولها أراض واسعة محاطة بأسوار من الزهور والزراعات، لم تكن هناك أسوار حديد، وما زلت أذكر حالة قطف الفاكهة من الشجر مباشرة، كنا نفتح الجميز لنأخذ منه اللبن، والمانجو وهي خضراء ومرَّة من علي الشجرة «لها طعم تاني يُهيئ لك إنها أحسن حاجة في الدنيا»، هذا العالم كان فرصة لدهشة رائعة لطفلة مثلي، خلق لي مساحة من الاحتكاك مع الفلاحين، وإنشاء علاقه مع الزرع والفاكهة والشجر، وحتي مع حشرات الغيط، ما جعلني أدرك من وقت مبكر أن العالم ليس للإنسان فقط، لكن هناك آخرون يشاركوننا هذا العالم. وما دهشتك الثالثة؟ دهشتي الثالثة هي النيل، ودسوق تقع علي فرع رشيد، والنيل هناك واسع جدا، وتتوسطه جزيرة ملأى بأشجار البرتقال والتين واليوسفي، وكنا نحتفل جميعا معا، مسلمين ومسيحيين بشم النسيم، والطبقة المتوسطة كان لها طريقتها في الاحتفال، يركبون الحناطير، وكل أسره تأخذ سجادة او كليم، ويجلسون في مجموعات كانت تبدو كصُحبات الورود، ألوان ملابسهم زاهية، والسيدات عاملين شعرهم زي نجمات السينما، والأفندية «زي أبويا» كان يرتدون جلابية بالشكل المصري الكلاسيكي، ذات الكم الواسع، وكانت مخصصة للمناسبات دي، وكان أهل دسوق جميعا يصنعون الفسيخ من سمك البوري في بيوتهم ما يعني مُتعة التحضير والتجهيز لهذا العيد الجميل. والدهشة الرابعة؟ هناك دهشات أخرى في حياتي، من أهمها الإسكندرية، والبحر، والسفر إلي القاهرة لزيارة الأهل والأقارب في أحياء مختلفة مثل شبرا والمطرية، وكل حي كانت له خصوصيته. وكان بيتنا كأي بيت مسيحي جدرانه مليانة صور، وأبي كان مختلفا، وذوَّاقة، وعنده روح فنانة جدا، فلم يكن يختار اللوحات التقليدية مثل بقية أقباط مصر، لكنه كان يضع صورا عالمية~، كلها دينية مثل رسوم «مايكل أنجلو»، وأيضا كان عنده مكتبة ضخمة من الأدب الروسي، والفرنسي، وأذكر رواية فرانسوا ساجان التي وجدت فيها أب ضعيف الشخصية أمام ابنته القوية، وهو شخصية مختلفة تماما عن النماذج التي نعرفها، فهو لايشبه أبي الفخم الضخم «سي السيد اللي الشخطة منه تجيبك الأرض». وكيف تسللت هذه الدهشات إلى لوحات «إيفلين عشم الله»، وكيف يمكن لمتلقي الفن التشكيلي قراءة أعمالك؟ شغلي مرّ بمراحل، ففي المرحلة الأولي كنت أرسم نباتات مجردة مثل الصبّارات، «مافيهاش فيجرز».. مستويات من الارتفاعات والانحفاضات «أبستراكت»، وتلتها «مرحلة البورتريه بالحبر» ثم مرحلة «خلط أجسام الحيوانات والحشرات بالبني آدمين»، فمثلا عندي لوحة «فرس النبي الأخضر»،وهو بطل اللوحة، شفته في الريف زمان، كما رأيت الحرباء وهي تتلون لتنتقل من غيط لغيط، وأخيرا المرحلة الحالية وهي مرحلة «الحكي بالرسم». لكن ألا تعتبر كل هذه الأشياء واللقطات والحكايات الجميلة «موتيفات شعبية»؟ الحكاية مش في الموتيفة، الحدوتة في الروح والرائحة، رائحة البشر والمكان والنباتات، وخصوصية النشأة والبيت، وبغض النظر عن المصطلح، واتفاقنا على وجوده أو رفضه، المتأمل لأعمالى سيجد تجسيدا كاملا للشخصية المصرية بأعمدتها السبعة كما ذكرها «د. ميلاد حنا» من دون تحيز لأي من روافدها علي حساب الأخرى.