قرون طويلة اعتدنا فيه أن نعتلي اسطح المنازل نرقب القتل والعراك في شوارعنا الضيقة بين حكام قدامي غاصبين, وآخرين وافدين طامحين يريدون إزاحتهم. فإذا انتهت المعركة نزلنا من أسطح منازلنا نبايع المنتصر علي السمع والطاعة وقبول المظالم وقليل من العدل كما يقول المؤرخون. نحن أبناء ثقافة لم تعرف الاختيار السياسي بل والاختيار بصفة عامة فالبدائل في حياتنا قليلة ونادرة. ومن تلك الثقافة ظهر المثل الشعبي المصري عاوز تحيره خيره وظهر الدعاء إلي الله بأن يقينا شر الحيرة. فالحيرة في منتهي معانيها عجز عن الاختيار. ويبدو أن الذين جاءوا بحرية الاختيار السياسي أوقعونا في حيرة شديدة تقترب من المحنة. فقد صدقنا أننا مخيرون وتمسكنا بحقنا في الاختيار إلي حد العراك وكأنه أحد قيمنا الراسخة الأصيلة وفي نفس الوقت نحن لا نعرف من وكيف ولماذا نختار؟؟ تلك واحدة من المحن الديمقراطية التي لم نعرفها ولم نمارسها يوما. الحيرة لاتتوقف إن استمعت إلي هذا المرشح أو ذاك فهما لايملكان سوي الوعود أما القوة الحقيقية القادرة علي إنفاذ الوعود فهي ليست لدي أي منهما وسوف تقف في سبيل تطبيق تلك الوعود فيما بعد. والإحجام عن التصويت مشكلة أخري وآفة لابد من التخلص منها إن أردنا المشاركة في صياغة المستقبل. سوف تكون الانتخابات نزيهة كما كانت في مرحلتها الأولي, ولكنها أيضا لن تكون حرة. فالحرية اختيار والاختيار مسئولية والمسئولية ثقافة لم تنتشر بعد. ومن الظلم أن تطالب المصريين جميعا بالاختيار الحر. ولن يستطيع أحد أن يخلص الناخبين من محنة الاختيار خاصة أن القوتين اللتين تخوضان الانتخابات تحيط بهما الشكوك القادمة من الماضي القريب والبعيد. يدور الصراع بينهما حول ما اتفقا عليه من قبل. كلا الفريقين قبل بضاعة يشكو منها اليوم وفي مصر البضاعة المباعة لاتسترد ولا تستبدل. معسكر الفريق أحمد شفيق يكيل الاتهامات ويثير المخاوف من الإخوان المسلمين ويستدعي تاريخهم القريب والبعيد. ولكن هذا المعسكر ومنذ قيام ثورة25 يناير قبل الإخوان ومنحهم شيئا من الدعم, وغض الطرف عن دعاوي التكفير في التصويت علي الإعلان الدستوري وانتخابات مجلس الشعب, ثم عاد يشكو تلك الدعاوي اليوم ويهدد المصريين بدولة الخلافة الراسخة في فكر الإخوان, وكأن الدولة الدينية ظهرت في فكر الإخوان بعد انتهاء المرحلة الأولي من الانتخابات الرئاسية. وكذلك فعل الإخوان. ارتكبوا سلسلة من الأخطاء في حق الشعب والثورة ثم عادوا يرفعون لواءها. قبلوا الإعلان الدستوري وحشدوا له التأييد ثم عادوا يشكون منه مادة بعد أخري. دخلوا المرحلة الأولي من الانتخابات الرئاسية وهم قابلون أن يكون الفريق شفيق مرشحا, بين ثلاثة عشر مرشحا وحينما جاء به الناخبون ليخوض السباق النهائي عادوا إلي رفضه والمطالبة بتطبيق قانون العزل السياسي. العدالة تقتضي أن تجري الانتخابات في المرحلة المقبلة علي ما جرت به في المرحلة الأولي مادام الجميع خاض تلك المرحلة دون اعتراض.. نحن علي أبواب المرحلة الثانية من الانتخابات ولسنا بصدد انتخابات جديدة. أما أن تظهر الاعتراضات بعد إعلان النتائج فهذا نوع من العبث الديمقراطي. اعتراض الإخوان له تبريره وهو أن لهم مرشحا يخوض معركة ضد خصم قوي وعنيد يخشون الخسارة أمامه. فما بال الذين خرجوا من السباق يريدون إهالة التراب علي الجميع ولو كانت لديهم اعتراضات حقيقية فلماذا خاضوا المرحلة الأولي. ليس أمامنا إلا أن نخوض محنة الاختيار مهما كانت المواقف. وإن لم تأت الانتخابات القادمة بما يطمح إليه المصريون فسوف يتعلمون ويعرفون ويسددون اختياراتهم في قادم الأيام. فالديمقراطية لم تأت أبدا في كل أنحاء العالم بأفضل المرشحين ولكنها وضعت انصارها علي طريق يخطئ حينا ويصيب أحيانا وكلما تقدمت التجربة تقلصت فرص الخطأ وتزايدت فرص الصواب. الألمان جاءوا بهتلر في انتخابات 1933 بانتخابات ديمقراطية فمزق أوصال الوطن والمواطنين. وفي بريطانيا أسقطت الديمقراطية تشرشل عام 1945 وهو بطل قومي ثم أعادوه مرة ثانية عام. 1951 وفي فرنسا أسقطت الديمقراطية ديجول عقب استفتاء 1969 وأجبرته علي أن يكف عن صناعة التاريخ ليتفرغ لكتابته ولم تشفع له بطولاته وإنجازاته التي وضعت فرنسا ضمن الدول الكبري. ولم يشفع له نداؤه الذي استعاره منه مبارك أنا أو الفوضي ولم تأت الديمقراطية الأمريكية في كل الأوقات بأفضل الرؤساء فقد جاءت بفرانكلين روزفلت وهو أفضل رؤساء الولاياتالمتحدة وجاءت بجورج بوش ليحتل مكانته بين أسوأ رؤساء أمريكا. دعوا المصريين يخوضون تجربتهم دونما شقاق أواضطراب فقد وضعتنا الثورة علي طريق لايصلح أن نسرع الخطي فيه فنمشي ونجري ونطير في آن واحد. لقد تحررنا ولكن الطريق إلي الحرية طويل ومازلنا في بداياته. وكما يقول البعض لامعني للحرية إن لم تتضمن حرية الفشل. لقد فشلنا طويلا بأخطاء لم تكن أبدا من اختيارنا وإذا ما فشلنا باختيارنا فهي المسئولية والتجربة التي تضمن النجاح في قادم الأيام. المزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين