كم الدراسات التى تصدرها مراكز التفكير الأمريكية يعود للظهور مجددا بقوة فى توقيت غير عادى لصانع القرار السياسى فى واشنطن قبل انتخابات الرئاسة فى نوفمبر. يركز باحثون كبار على تقديم الرؤى المستقبلية بعد فترة من الركود فى تلك الدراسات نتيجة الاهتمام بالمنطقة بالمعنى الأوسع والأشمل ثم عادت مراكز الأبحاث الى ادراك حقيقة تاريخية وهى أن مصر ليست بالدولة الهينة أو الهامشية التى يمكن اغفالها عند الحديث عن مستقبل الشرق الأوسط. واحدة من الدراسات المهمة التى صدرت قبل أيام للباحث جون ألترمان خبير الشئون المصرية والشرق الأوسط فى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS فى واشنطن تحت عنوان «صناعة الخيارات: مستقبل العلاقة بين الولاياتالمتحدة ومصر». فى مواجهة سيل من التقارير السلبية عن مصر فى الاعلام الغربي، يتحدث ألترمان بعقلانية شديدة عن العلاقة بين القاهرةوواشنطن ويطرح أسئلة واقعية عن مسار العلاقات الثنائية ويقول إن مصر كانت حجر الزاوية فى استراتيجية الولاياتالمتحدة فى المنطقة وكانت الولاياتالمتحدة حجر الزاوية فى الاستراتيجية المصرية حتى جاءت السنوات الخمس الماضية لتغير من طبيعة العلاقة ويقر أن المصريين ينظرون الى الولاياتالمتحدة بقدر كبير من الشك اليوم. ينتقل ألترمان فى رؤيته الى جانب «عملي» أكثر صراحة فيقول إن هناك «اختبار ارادات بين الجانبين» بسبب التباين فى رؤية العلاقات الثنائية من جانب والوضع فى الشرق الأوسط فى جانب آخر. وهو تقييم يعكس ما يفكر فيه دوائر صناعة القرار الأمريكى بحكم قرب الباحث من المؤسسات التى تصيغ السياسة فى واشنطن ويرى أن «اختبار الارادات» من غير المرجح أن يسفر عن كثير من النجاح -على حد وصفه- وينبه الى أن العلاقة تسير اليوم فى الاتجاه المعاكس. يقول ألترمان «كان من الأسهل، بسبب الخلافات، ترك العمل على اعادة النظر فى العلاقة ليوم آخر. لكن مع التغييرات فى مصر على مدى السنوات الخمس الماضية، ومع قيام الولاياتالمتحدة بالتفكير من جديد بشأن دورها فى منطقة الشرق الأوسط، فقد حان ذلك اليوم». ويضيف الا توجد سياسة دون تكاليف أو عيوب، ولكن صناع السياسة الأمريكية يحتاجون الى فهم كل النتائج المحتملة للحفاظ على علاقات وثيقة مع مصر والنتائج المحتملة للبدائل المتاحة. يناقش الباحث الأمريكى وجهات النظر المختلفة حول قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان فى ملف العلاقات الثنائية وينتهى تقريبا الى خلاصة مهمة وهي: «يحتفظ ما يسمى بالواقعيين بتأثير قوى فى صناعة القرار السياسى الأمريكي، والكثيرون منهم فى وزارة الخارجية، حيث ينحاز هؤلاء لاتجاه التعامل مع الحكومات الأخرى، بغض النظر عن سياساتها الداخلية». فى محاولة رسم السيناريوهات، يحدد ألترمان سيناريوهين محتملين الأول يشير الى «وداع طويل الأجل» للعلاقات بين القاهرةوواشنطن نتيجة الخلاف على قضايا رئيسية لكنه يحمل مخاطر للمصالح الأمريكية نتيحة احتمال فقدان ميزات عسكرية ولوجستية وغياب التنسيق عن قرب فى الحرب على الارهاب والاستفادة من الخبرات المصرية فى مواجهة الجماعات الارهابية ضمن مخاطر أخرى. وفى مقابل السيناريو السابق، يرى الباحث الأمريكى أن الجانبين يمكن أن يتفاهما فيما يتعلق بالمصالح المشتركة من نقطة ما سوف يخلفه تدهور العلاقات على المصالح الوطنية المباشرة وأن يبحثا بصراحة ما الذى يريده كل طرف من الآخر. وقد ألقى ألترمان باللوم على الادارة الأمريكية لعدم قيامها بشرح فوائد العلاقات الثنائية للرأى العام الداخلي- خاصة فيما يتعلق بملف المساعدات- بينما يحاول الايحاء بأن هناك هجوما على الولاياتالمتحدة فى الاعلام المصرى بتشجيع من الحكومة. من النقاط الكاشفة لتفكير المؤسسات الأمريكية ما يقوله ألترمان من أن التحديات التى تواجه مصر تتمثل فى ثلاثة عوامل وهى الاقتصاد والأمن والسياسة ويقول إن العوامل الثلاثة تمثل «مثلثا» وأى ضعف فى واحد منها يزعزع الاثنين الآخرين ومن ثم يجب أن يتقدم الثلاثة معا ولا يمكن أن تكون «متسلسلة»، كما أن ثمة تحديا آخر للحكومة المصرية وهو اقامة مجتمع أكثر مرونة أن لديه ثقة أوسع فى جهودها. طرح ألترمان المقرب من دوائر صناعة سياسات الشرق الأوسط فى واشنطن يجب دراسته بعناية فى القاهرة من جانب المسئولين فى المستويات العليا والجهات المسئولة عن العلاقات مع واشنطن ومراكز البحث المصرية قبل وصول رئيس جديد الى البيت الأبيض سواء كان هيلارى كلينتون أو دونالد ترامب لأن الأسئلة والسيناريوهات السابقة ستكون على مائدة البحث عندما يتشكل فريق جديد لادارة السياسة الخارجية الأمريكية ورغم القناعة أن مصر تمثل ركنا مهما فى المصالح الأمريكية فإن الأصوات المزعجة التى لا يروق لها ما يجرى فى مصر ستظل تمثل خصما من العلاقات الثنائية التى لا تحتمل هزات عنيفة من منطلق المصالح المصرية الخالصة. هنا نطرح أسئلة من ورقة ألترمان تستحق النقاش: كيف يمكن لعلاقة وثيقة أن تخدم كلا البلدين فى المستقبل؟ وما هى طبيعة العلاقات الضرورية حتى تحقق مصر أهدافها؟ وما هى المجالات الرئيسية اللازمة للتعاون؟ ما هى نوعية الشركاء الذين تحتاجهم مصر، وماذا يريدون فى المقابل؟ وماذا يمكن أن تقدمه مصر للشركاء المحتملين، وماذا يمكن أن يعرضه الشركاء على مصر ولا يمكن للآخرين أن يقدموه؟ [email protected] لمزيد من مقالات عزت ابراهيم