الآن ... وبعد أن هدأت – نسبياً – ردود الفعل على الانقلاب العسكرى الفاشل الذى جرى فى تركيا ليلة (16/7/2016)، ودخلت الدولة التركية تحت حكم أردوجان فى مرحلة جديدة من الحكم الاستبدادى الملتحف بعباءة ديمقراطية خادعة، وروح انتقامية شديدة القسوة على كافة ألوان الطيف من المعارضين السياسيين والعسكريين، الآن ... يحتاج المشهد إلى إعادة قراءة وتأمل ليس فحسب لما جرى فى انقلاب الثمانى ساعات وأسراره التى بدأت تتكشف تباعاً، بل والأهم حول مستقبل تركيا بعد المحاولة الانقلابية وما تلاها من انقلاب آخر أكبر وأهم يقوده الآن أردوغان ضد أسس الدولة التركية وضد أبسط قيم الديمقراطية.. ماذا عن هذا المستقبل بتعقيداته واستحقاقاته الداخلية والخارجية !! . أولاً : وبداية ينبغى عدم السير فى السيناريو الذى تبنته بعض الأقلام والفضائيات، بنفى أن هناك انقلاباً قد وقع ليلة (16/7/2016)، لأننا بالفعل كنا أمام محاولة انقلابية للاستيلاء على السلطة وهى محاولة لا ينبغى لأحد أن ينكرها، وكونها فشلت فليس هذا مبرراً لإنكارها. ولكن الأوفق بالذات – مصرياً وعربياً – مناقشة دلالة الانقلاب مع حاكم مثل أردوجان وحزبه، كان يتصور أن لا أحد فى دولته قادر أو راغب فى رفض حكمه وتغييره، وكون أن هناك ضباطاً وجنوداً (حوالى 60% من الجيش التركى) امتلكوا شجاعة إعلان الغضب وإن بطريقة خاطئة فإن هذا مؤشر على أن ثمة غضب شعبى وعسكرى واسع ضد أردوغان وجد متنفساً له فى هذه الحركة الانقلابية؛ هنا أهمية القراءة الموضوعية، وليس الإنكار أو الإدعاء أن أردوجان خلق تمثيلية لكى يهيمن على البلاد ويفرض النظام الرئاسى . إن الواقع يقول أن ثمة انقلاباً قد وقع ولكنه لم يخطط له جيداً، ولعبت أجهزة مخابرات دولية دوراً فى إفشاله تلك حقيقة علينا الاقتناع بحدوثها، أما توظيفه لصالح أردوجان فهذا أمر آخر يحتاج إلى حوار منفصل . ثانياً : استثمر أردوجان صاحب الطموحات الاستبدادية وقوع الانقلاب الفاشل، فى تصفية معاركه مع خصومه السياسيين الكبار سواء داخل الجيش أو خارجه بالذات مع جماعة وشخص معلمه وأستاذه (فتح الله جولن)، إن حجم الاعتقالات ونوعيتها المثيرة للدهشة، تؤكد أن أردوغان يتجه إلى حكم استبدادى بقشرة ديمقراطية، إذ ما علاقة القضاة والمدرسين وأساتذة الجامعات، والموظفين العاديين، بحركة انقلابية فاشلة داخل الجيش ؟! نفهم أن يتم عقاب قطاعات من الجيش أو حتى الشرطة ولكن ما علاقة الآخرين بهكذا حركة انقلابية ؟ اللهم إلا إذا كان المقصود الأساسى لأردوجان هو الاستثمار الواسع والسريع لما جرى لكى يبدأ حكماً رئاسياً استبدادياً جديداً وخطيراً فى تركيا (وعلينا أن نلاحظ أن الحكم فى تركيا منذ مائة عام هو حكم برلمانى !!) ، وهذا فى تقديرنا هو الانقلاب الحقيقى أما ما سبقه من انقلاب ليلة (16/7) فهو (مينى انقلاب) أو مشروع انقلاب لم يكتمل لكن تم توظيفه وبقوة فى مزاد العمل السياسى لأردوجان وحزبه. ثالثاً : إن أرقام الموقوفين والمبعدين بعد عدةأيام فقط من المحاولة الانقلابية الفاشلة وصلت وفق للتقديرات المحايدة حوالى 50 الفا والتى تضمنت وفقاً لوكالة «رويترز « (إقالة ثمانية آلاف شرطي بينهم 103 من ذوي الرتب الرفيعة، وأحيل منهم 41 على المحكمة، كما اعتقلت المباحث 30 حاكماً إقليمياً وأكثر من 50 من كبار الموظّفين، فيما أعلن رئيس الحكومة «بن علي يلدريم» اعتقال أكثر من 7500 شخص بينهم 6038 عسكريا و755 قاضياً و100 شرطي، بعد 72 ساعة من فشل الإنقلاب الذي أودى بحياة 308 أشخاص منهم 100 من المحسوبين على الإنقلابيين، وأحْصَت وكالة الصحافة الفرنسية . اعتقال 8314 من القضاة والمدّعين العامين والعسكريين وأفراد الشرطة والموظفين الحكوميين، وإقالة 9 آلاف شرطي ودركي وموظف حكومي، فى هذه الأجواء الملتهبة استغلَّ «اردوغان» ورئيس حكومته الفرصة للتلويح بإعادة العمل بعقوبة الإعدام التي أُلْغِيَتْ سنة 1984 (خلال الحكم العسكري) . ما دلالة هذه الأرقام المرشحة للزيادة خلال الأيام القادمة .. إن الدلالة الأهم هى أن هذه الاعتقالات والشراسة فى تصفية الخصوم.. هى الانقلاب الحقيقى فى تركيا الآن وليس انقلاب ليلة (16/7/2016). رابعاً : لكن السؤال الأهم فى تقديرنا بعد هذه المذبحة السياسية وبعد هذا الانقلاب الحقيقى أردوغان ضد القيم الديمقراطية وضد مؤسسات الدولة فى تركيا هو : هل ستؤدى هذه الخطوات إلى استقرار حقيقى ودائم لحكم أردوجان وحزبه الإخوانى المعدل (حزب الحرية والعدالة) ؟ . الإجابة بالقطع لا !! إذ أن روح الانتقام والتشفى لا تبنى أنظمة مستقرة، بل ستزيد النار التى تحت الرماد، اشتعالاً؛ وإذا ما أضفنا إليها ذلك الإذلال الممنهج الذى تم مع عناصر الجيش التركى، الذى كان يعد أحد أهم أعمدة الدولة التاريخية، فإن قدرته على قمع الأكراد ومواجهة التحديات الإقليمية المتفجرة من حوله (سواء فى سوريا أو العراق) ستكون أضعف، وسوف يصبح تفكيره الاستراتيجى فى المرحلة المقبلة «الداخل التركى»، ومحاولة الانتقام والتخطيط للثأر مجدداً من أردوغان وحزبه وميليشياته المسلحة التى ظهرت باعتبارها تنظيماً سرياً موازياً لقوات الجيش والشرطة وهو انتقام وثأر فى تقديرنا سيكون فى المرة القادمة أكثر دموية وعنفاً .. لمزيد من مقالات د. رفعت سيد أحمد