يبقى بعد ذلك الإشارة الأخيرة إلى أن الأزهر نتيجة التحولات السياسية الجذرية التى حدثت فى زمن السادات وتحالفه مع جماعات الإخوان والإسلام السياسى، التى انتصر بها على خصومه التقليديين من الناصريين والقوميين، فضلا عن الليبراليين، قد أدت إلى تديين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية فى مصر إلى درجة كبيرة ارتفعت معها أصوات أنصار الإسلام السياسى الذى وجد ما يدعمه فى الثورة الإيرانية وتحالف السادات مع التيار السلفى، الأمر الذى انتهى إلى كارثة اغتيال السادات بعد تكفيره، بسبب معاهدة كامب ديفيد وهيمنة الفكر السلفى- حتى فى الخطاب الإخوانى الذى هو دعوة سلفية فى آخر الأمر. أقول ترتب على ذلك كله تزايد نفوذ الخطاب الدينى السلفى طوال عصر مبارك إلى اليوم، وهو أمر أصاب الأزهر بعدواه، فتشبه بالسلفيين فى تعصب أغلب رجاله، وزعم لنفسه سلطة دينية ليست له، وتحالف ممثلوه فعليا مع السلفيين فى استبعاد صفة المدنية عن هوية الدولة التى حصروها فى الإسلام الذى هو دين الأغلبية وليس وصفا لهوية الدولة. هكذا نسى الأزهر ميراث محمد عبده ومحمود شلتوت وعبد المتعال الصعيدى وحسن العطار، وأصبح أزهرا مختلفا عن وثائقه التى أصدرها مع المثقفين المدنيين والمستنيرين من أنصار الدولة المدنية التى ينادى بها الرئيس نفسه فى كل مناسبة. ولم يتبق أمام دعاة الدولة المدنية– ومنهم رئيس الجمهورية نفسه- سوى مواجهة الأمر بخطاب نقيض، يبدأ من منجزات ابن رشد الفلسفية وميراث الاستنارة القريب الذى يبدأ بالإمام حسن العطار ولا ينتهى بفتاوى الدكتور سعد الدين الهلالى. فهذا وحده طريق المستقبل والدولة المدنية الديمقراطية التى انتخبنا عبد الفتاح السيسى رئيسا لها، رغم أنف الإخوان وحلفائهم الذين لا يزالون ينشرون بين الناس ادعاءاتهم المتخلفة والإرهابية. هكذا عاد الأزهر إلى ما بعد الوثائق التى صنعها مستنيروه، وعلى الأخص الندوات التى أقامها الأستاذ الدكتور محمود زقزوق، أيام أن كان وزيرا للأوقاف، حين أشرف على ندوة بالغة الأهمية بعنوان: «تجديد الخطاب الدينى، لماذا وكيف؟». وقد طبعها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية فى أكثر من طبعة، ولا أزال محتفظا بنسخة من طبعتها الثانية التى صدرت سنة 2003، قبل أن يفكر أحد من الأزهريين فى استخدام مصطلح «الخطاب الدينى» أو حتى تجديده. وقد بدأت فعاليات هذه الندوة بكلمة للدكتور محمود زقزوق، وزير الأوقاف فى ذلك الوقت، مقدما الندوة بقوله: «لعله من نافلة القول أن نؤكد أن عملية تطوير أو تجديد الخطاب الدينى تعد عملية مستمرة وليست وقتية أو موسمية. فالحياة متجددة باستمرار والمتغيرات من حولنا لا تكف عن الحركة. ومن الطبيعى أن يكون الخطاب الدينى مواكبا لظروف كل عصر، ولما يدور فيه من متغيرات، وذلك بالتجديد المستمر فى أسلوب الخطاب الدينى، وفى مضمونه حتى يستطيع أن يصل بالرسالة التى يريد توجيهها للناس إلى عقولهم وقلوبهم. أما إذا انفصل الخطاب الدينى عن واقع الحياة ومتغيرات العصر، فإنه لن يجد من يلتفت إليه أو يعيره اهتماما. والإسلام- كما هو معروف- دين للحياة بجميع أبعادها، لا ينفصل عن حياة الناس واهتماماتهم، ومن هنا فإن الدعوة إلى تطوير الخطاب الدينى تعد دعوة إسلامية أصلية وليست إملاء خارجيا كما يتصور بعض من لا يفهمون طبيعة الدين الإسلامى». وكانت كلمات الدكتور زقزوق هذه –خصوصا فى قسمها الأخير- موجهة للتيارات السلفية فى داخل الأزهر والتيارات الجامدة التى لا تزال ترفض أن يكون الإسلام دينا للحياة المتجددة وقابلا للتجدد مع متغيرات الحياة وما يترتب عليه، ولولا ذلك ما أشار الحديث النبوى إلى أنه يأتى على رأس كل مائة عام من يجدد للأمة دينها، ويعنى ذلك أن التجديد دعوة إسلامية بحتة وفرض واجب على كل مسلم فى مواجهة هؤلاء الذين يحاولون إيقاف عجلة الحياة ويرفضون أن يكون الإسلام دينا للعلم والمدنية، كما ذهب الإمام محمد عبده، أو أن يكون التفكير المتجدد فريضة إسلامية كما ذهب عباس العقاد. وكذلك كان من الطبيعى أن يحث الدكتور محمود زقزوق تلميذه الشيخ أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر، والمرحوم الدكتور محمود عزب، مستشار شيخ الأزهر، على أن يدعو عددا من دعاة الدولة المدنية إلى الأزهر وأن يفكروا فى تجديد الخطاب الدينى من وجهة نظر مدنية. ويبدو أن شيخ الأزهر كان قد شعر بأنه مضطر إلى ذلك فى مواجهة الهجوم السلفى عليه وتصاعد سطوة الإخوان المسلمين فى الأزهر، فاضطر إلى هذه الدعوة، وقام بدعوة من يناصرونه فى دعوة التجديد القديمة التى سبق أن تبناها الأزهر نفسه، سواء فى أيام محمد عبده أو فى أيام الدكتور محمود زقزوق، حين كان وزيرا للأوقاف. وقد أثمرت الحوارات بين مثقفى الدولة المدنية ومشايخ الأزهر مجموعة من الوثائق، هى أربع وثائق على وجه التحديد. أولها عن أصول الدولة المصرية الحديثة، وثانيها عن حرية الإبداع، وثالثها عن تصور إسلامى جديد لقضايا الأمة العربية الحاسمة، ورابعها عن المرأة وتجديد الخطاب الخاص بها فى الإسلام. وقد كان شيخ الأزهر نفسه متحمسا لهذه الوثائق، وكان يقرأ كل وثيقة فى مؤتمر صحفى يذيعها على الجميع من خلاله. وأذكر أننا قد اختلفنا فى الوثيقة الأولى حول تجديد هوية الدولة المصرية، وأصرت مجموعة من الحاضرين (أذكر منها نبيل عبد الفتاح، وسمير مرقص، وجمال الغيطانى، وصلاح فضل، وكاتب هذا المقال، والدكتور محمود زقزوق) على أن تُوصف مصر بأنها دولة مدنية. وكان ذلك مصدر خلاف شديد بين المشاركين، ورفض الأزهريون الحاضرون، وعلى رأسهم الدكتور حسن الشافعى، الذى صعد نجمه مع سيطرة الإخوان المسلمين على الحكم وأصبح نجما بارزا فى صياغة دستورهم، وتمت مكافأته بتولى رئاسة مجمع اللغة العربية. ولكن فى الصياغة الأخيرة للوثيقة الأولى قام الدكتور أحمد الطيب بتغيير هوية الدولة، وبدل أن تكون «مصر دولة مدنية ديموقراطية حديثة» جعلها «مصر دولة وطنية دستورية». وكان ذلك تحت ضغط مستشاريه الذين كانوا -ولا يزالون- يرون أن مصطلح الدولة المدنية مرادفا للكفر الذى يعنى العلمانية فى نظرهم، ولذلك ضغطوا على شيخ الأزهر ليحذف وصف مصر بالدولة المدنية. ومن الغريب أن هذا التغيير كان تعبيرا عن توجه شيخ الأزهر الفكرى بنزعته الأشعرية الماتريدية، ولذلك كان من الطبيعى أن يتحالف ممثلو الأزهر مع ممثلى السلفية فى لجنة الخمسين التى كانت موكلة بإعداد الدستور على حذف كلمة الدولة المدنية صفة لمصر من المادة الأولى من الدستور الخاصة بهوية الدولة. وبالفعل نجحوا فى مسعاهم، وحذفت كلمة مدنية بوصفها صفة لهوية الدولة المصرية ونقلت– تحت ضغطهم- إلى ذيل ديباجة الدستور فى جملة لا تؤدى المعنى المقصود تماما، فأصبحت آخر جملة فى مقدمة الدستور أن «مصر حكومتها مدنية». وتصوروا أنهم تغلبوا على الجماعات المدنية فى لجنة الخمسين بذلك، ولكن رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسى فاجأهم فى الخطاب الأول الذى ألقاه، حين تولى رسميا منصب الرئاسة، بتحديد هوية الدولة المصرية التى أصبح رئيسا لها، بأنها دولة مدنية ديموقراطية حديثة. وكان هذ الوصف مستجيبا تماما لمحاولة متجاهلة من أغلب الأزهريين، وعلى رأسهم شيخ الأزهر. أعنى محاولة الدكتور محمود زقزوق كتابة مذكرة ضافية على هيئة كتيب بعنوان: «هوامش على أزمة الفكر الإسلامى المعاصر: نظرة نقدية». وقد كتب الدكتور محمود زقزوق هذه المذكرة بوصفه عضوا فى هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ونشرت هذه المذكرة مكتبة الإيمان للنشر والتوزيع، وأصدرت طبعتها الأولى عام 2014. وكانت هذه المذكرة الضافية قائمة على تصور مبدئى مقترح لخطة عمل هيئة كبار العلماء بعد تشكيلها الجديد بالقرار الجمهورى رقم 24 لسنة 2012. وبعد مناقشة المذكرة فى الهيئة الموقرة رأى الدكتور محمود زقزوق أن يفصّل القول فى بعض جوانب الموضوع، وأن يضع له عنوانا جديدا هو «هوامش على أزمة الفكر الإسلامى المعاصر». ولكنه أراد فى الوقت نفسه ألا يخرج بحثه الجديد عن الإطار العام الذى تضمنته المذكرة المشار إليها، وما قصده الدكتور زقزوق فى واقع الأمر من هذه المذكرة هو التنبيه إلى ضرورة الاهتمام بموضوع تجديد الخطاب الدينى فى نطاق دائرة أوسع من جانب العلماء المعنيين بمسيرة الفكر الإسلامى، فالمسئولية عن المأزق الحالى للفكر الإسلامى مسئولية مشتركة، وفى حاجة ماسة إلى تضافر جهود الجميع فى محاولة جادة للخروج بالأمة من النفق المظلم الذى حوصرت فيه. وقد كان الدكتور محمود زقزوق على ما عاهدناه فى شجاعته الفكرية التى جعلته يكتب عن مظاهر الجمود فى الفكر الإسلامى المعاصر وضرورة تجديده، وأن يؤكد ذلك بإبراز الجانب الحضارى فى الإسلام والفرائض الغائبة. ولعل أهم فريضة فى هذه الفرائض التى يناقشها الدكتور محمود زقزوق هى ضرورة نشر العقلانية الإسلامية التى تدعو إلى التجدد المستمر فى مواجهة عقلية الاجترار والتقليد التى لا تزال غالبة على عقلية الذين بأيديهم أمور الأزهر نفسه والذين يريدون له أن يظل معاديا للتجديد والاجتهاد، وأن يظل حصنا للاتباع والتقليد، متحالفا مع السلفيين الذين اخترقوه وأصبحوا مسيطرين عليه من داخله. ولولا إلحاح الرئيس عبد الفتاح السيسى على مقولة التجديد وضرورته لظل الأزهر على شعاره القديم وهو: التقليد والجمود هو المسار الأصح للأزهر الذى يعد نفسه سلطة دينية، ويمارس إلى اليوم دورا سياسيا ليس منوطا به، وينشر إعلانات فى الشوارع لأول مرة فى تاريخه كأنه يدخل فى انتخابات جديدة يريد أن يكسبها، وأن يؤكد فى عقول الناس جميعا أنه سلطة دينية ذات طابع سلفى، ناسيا أنه بذلك كله يمثل عصيانا واضحا لما تريده الصفوة المستنيرة فى داخله، وهى أقلية لا تأثير لها ولما يريده رئيس الجمهورية نفسه، ممثلا للطائفة المستنيرة من المسلمين التى قبلت به رئيسا. وهكذا أصبح الأزهر معاديا لكل محاولات التقدم وتجديد الخطاب الدينى. ولله الأمر من قبل ومن بعد. وللحديث بقية لمزيد من مقالات جابر عصفور