«..اذا كانت القراءة قد أطلقت يدي في أن أحصل من المعرفة على ما أشاء، فقد أطلقت الفلسفة عقلي في أن أحصل على المعرفة بالكيفية أو بالصورة التي أشاء، بعبارة أخرى كانت الفلسفة طريقي الى أن أوجه عقلي فيما أقرأ، تعلمت منها أن أكون عقلا فعالا بالنسبة لما أتلقى من معرفة، لا أكون عقلا منفعلا فحسب، تعلمت منها أن أعقد مقارنات، وأن أستشف علاقات تغيب عن النظرة غير المتدربة» بهذه الكلمات يصف د مصطفى سويف سنوات تكوينه وانطلاق فكره. ومن ثم كانت ريادته في علم النفس وتجربته الثرية في تحليل وتقييم المجتمع والتعليم والابداع في مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل . د سويف رحل عن عالمنا مؤخرا بعد أن ترك معنا ما قد يساعدنا على أن يكون لنا «عقلا فعالا» وليس «عقلا منفعلا». هذا بالطبع اذا أردنا واخترنا أن يكون لنا ذلك العقل المميز والمبدع. د سويف وهو يعرض طرحه لأفكاره وتجربته كتب في نهاية تصدير لكتاب له « .. لعله يبذر حفنة من البذور تصادف أرضا تنعم بالخصب، وسماء ترعى النماء». لعل.. ورحل من دنيانا أيضا مؤخرا «ألفين توفلر» الكاتب الأمريكي التي أمضي سنوات عمره ( 1928 - 2016) في استشراف المستقبل وقراءة ملامحه والأمر الأهم التعامل مع الغد والاستعداد له. والتذكير به كما هو الحال مع د سويف ليس الحديث عن غيابه بل حضوره بما كتبه وحركه أو حاول أن يحركه في حياتنا الساكنة التي تتصف غالبا بالتكرار وبقاء الحال على ما هو عليه. «توفلر» صاحب كتاب «صدمة المستقبل» له مقولة شهيرة «ان التغيير ليس ضرورة للحياة بل هو الحياة ذاتها». وفي تعريفه للأمية والأمي قال:»..ان الأمي في القرن الحادي العشرين ليس من لا يعرف القراءة والكتابة بل من لا يستطيع التعلم وتفكيك ما تعلمه وأيضا أن يعيد التعلم من جديد». قراءة تعريف توفلر من جديد تأخذنا الى العقل الفاعل (وليس المفعول به) أو العقل الفعال القادر والراغب على استيعاب المعرفة وهضمها ( وليس بلعها) وأيضا الاقبال على الحياة .. بما فيها ومن فيها. وهنا أراه قادما من بعيد بخطواته الواثقة وابتسامته الساحرة زوربا الحبيب والعظيم. وهو بالطبع في غنى عن التعريف ..»اليكسيس زوربا» من العظماء الذين علمونا كيف نقبل على الحياة والأهم كيف نحتضنها بقوة ونذوب فيها . انه حكيم الرقص وفيلسوف الحياة. هكذا عايشناه في فيلم وهكذا أبهرنا وأبهجنا وبقي في ذاكرتنا وفي بالنا على الرغم من مرور السنين. فيلم «زوربا» وقد جسد شخصيته المتدفقة والجذابة «انطوني كوين» من انتاج عام 1964. أما الرواية نفسها فقد كتبت عام 1946 منذ 70 عاما. مؤلف الرواية اليوناني «نيكوس كازانتزاكيس» وهو يحاول أن يحدد الناس الذين تركوا آثارا عميقة في نفسه وضع اسم «زوربا» في القائمة التي ضمت هوميروس وبوذا ونيتشه وبيرغسون. وبما أنه حدد أيضا دور وبصمة لكل اسم منهم نجده يقول عن «زوربا»: «هو الذي علمني أن أحب الحياة، وأن لا أخاف من الموت». ولم يتردد «كازانتزاكيس» وهو يصف لحظة علمه بنبأ موت «زوربا» في أن يكتب:»..أغمضت عيني، وأحسست بالدموع تتدحرج بطيئة ودافئة علي خدي. مات.. مات ورحت أتمتم لنفسي:راح زوربا. راح الي الأبد. ماتت الضحكة. وانقطعت الأغنية. وتحطم السانتير. وتوقفت الرقصة علي حصي الشاطئ. والفم الذي كان لا يهدأ عن طرح الأسئلة أصبح الآن مليئا بالتراب. ولن توجد أبدا بعد اليوم يد تلاطف الحجارة والبحر والخبز والنساء.» نقرأ هذه السطور في فصل كامل عن زوربا الانسان في كتاب «تقرير الى غريكو» سيرة «كازانتزاكيس» الذاتية المتميزة والممتعة وقد ترجمها الى العربية ممدوح عدوان. ولا يمكن أن أنتهي من كتابة هذه الفقرة دون أن أقف أمام «يد تلاطف الحجارة والبحر والخبز والنساء». خاصة أن هذا الموقف الفعل في حياتنا يقربنا من الآخر والأشياء الأخرى ومعه نلمس ما بداخلنا من مشاعر وأحاسيس تبين لنا معان أعمق وأبعد لوجودنا في دنيانا. ويذكر «كازانتزاكيس» أيضا كيف أن زوربا «كان يؤمن بأن الحياة بل والموت نفسه رقصة.. يجب أن نحوله لرقصة. لكي ننطلق ولكي نتحرك ونحرك معها قدمينا وجسدنا وروحنا. كنت أرقب زوربا يرقص ويصهل في أعماق الليل. أسمعه يدعوني أن أقفز بدوري خارجا من من ملاجئ التعقل والتعود وأن أرحل معه عبر سفر عظيم لا عودة منه.» نعم أن تخرج من معاقل التعقل والتعود والجمود والموت البطئ. زوربا في ذاكرة الكاتب كان وظل المحارب بشراسة والراقص بشراهة في الحياة «صاحب النفس العظيمة والجسد المتمكن والنداء المنطلق الذي لم أر، ولم أعرف، له شبيها في حياتي كلها» كما كتب كازانتزاكيس. أما الشاعر محمود درويش في نصوص له وصفها ب»يوميات» يكتب تحت عنوان «الحياة.. حتى آخر قطرة»: «وان قيل لي ثانية: ستموت اليوم، فماذا تفعل؟ لن أحتاج الى مهلة للرد: اذا غلبني الوسن نمت. واذا كنت ظمآن شربت. واذا كنت أكتب، فقد يعجبني ما أكتب وأتجاهل السؤال..» وبعد خطوات أخرى يأخذها درويش ينهي رده على السؤال اياه «ستموت اليوم، فماذا تفعل؟» قائلا: «واذا كنت أمشي واصلت المشي بايقاع أبطأ. واذا كنت موجودا، كما أنا الآن، فلن أفكر بالعدم. واذا لم أكن موجودا، فلن يعنيني الأمر. واذا كنت أستمع الى موسيقى موزارت، اقتربت من حيز الملائكة. واذا كنت نائما بقيت نائما وحالما وهائما بالغاردينيا. واذا كنت أضحك اختصرت ضحكتي الى النصف احتراما للخبر. فماذا بوسعي أن أفعل؟ ماذا بوسعي أن أفعل غير ذلك، حتى لو كنت أشجع من أحمق، وأقوى من هرقل؟» والحياة بالمناسبة تتحول الى رقصة ليس فقط عند «زوربا» بل عند الروائي الياباني هاروكي موراكامي أيضا ففي روايته «رقص رقص رقص» يكتب: ارقص.. يجب أن ترقص.. مادامت الموسيقي تعزف، يجب أن ترقص، لا تفكر حتي في السبب، إذا شرعت في التفكير فسوف تتوقف قدماك. إذا توقفت قدماك فسوف نتعطل نحن، فسوف تتعطل أنت، لذا لا تفكر في شيء مهما بدا ذلك حمقا، يجب أن تواصل الخطى.. يجب أن تمرن جسمك، يجب أن تحلحل ما قمت بربطه، يجب أن تستخدم كل ما لديك، نعلم أنك متعب، متعب وخائف، هذا ما يحدث لكل شخص.. حسنا، فقط لا تدع قدميك تتوقفان» ............ في كل الأحوال فان الحياة من أول خطوة فيها حتى آخر قطرة منها تحتاج الى عشاق للحياة. عشاق يعرفون كيف يعيشون عشقهم ومعشوقتهم ولا تتوقف أقدامهم .. ويعرفون كيف يتحدثون عن هذا العشق وهذه الحياة .. ببهجة وسعادة.