اذا صحّ ما يقوله امين معلوف في كتابه اختلال العالم وهو ان الغرب دخل الي الالفية الثالثة ببوصلة معطوبة، فإن البوصلة التي دخل بها العالم العربي الي هذه الالفية عمياء، وقد تكون هناك جهة خامسة لا تشير اليها حتي البوصلات والحواسيب الذكية، ففي العقد الاخير من القرن العشرين لم يمت كثير من المفكرين والمثقفين العرب وفي نفوسهم شيء عن حتي سيبويه، بل ماتوا وفي نفوسهم شيء من الحربين العالميتين الاولي والثانية. حين اعيد رسم تضاريس هذا الكوكب سياسيا فيما لعب القوي دور البطل الذي يقسم الغنائم، ولعب الضعيف رغما عنه دور الكومبارس، فلم يكن له ناقة او بعير في كل ما جري رغم انه كان ساحة لحروب الاخرين . وحين نعود الي ما كتبه بعض المثقفين العرب عن الألفية الجديدة وهم يودعون القرن العشرين، نجد انهم لم يحتكموا في توقعاتهم الي اية بوصلات، ولم تكن المستقبليات بالنسبة اليهم علما له قواعده بقدر ما اسلموا أمرهم لما يتصورون انه الحدس . وهكذا انتهي ضرب الاخماس بالاسداس الي اصفار، فكانت العودة محتمة الي المربعات الاولي في معظم المجالات، ومنهم من تمني البقاء علي قيد الحياة كي يشهد اليوتوبيا التكنولوجية الموعودة، ولم يكن يدري انه محظوظ لأنه حرم من هذا الجحيم الذي يصطلي بناره عشرات الملايين من بشر حفروا عقودا في زنزانة من اجل الحرية، ثم وجدوا انفسهم كمونت كريستو في الحكاية في زنزانة اضيق واشد رطوبة ! ما حدث منذ مطلع هذا القرن هو انقلاب عصف بقائمة الاولويات، وما كان مثار سجال واهتمام ورعاية رسمية علي مدار الساعة طرد الي الهامش واقتصر مصطلح التقشف الذي ولد اقتصاديا علي الثقافة التي كانت علي امتداد القرن الماضي ضحية الحروب والازمات، والكبش الذي يضحي به لأنها تتطلب رفاهية غير مُتاحة لمن خبزوا حتي الورد من فرط الحاجة الي ما هو ضروري للعيش ! بعد حرب حزيران عام 1967 وعلي اختلاف الاسماء التي حملتها كانت ضحية التقشف مجلات ومسارح ومؤسسات ذات صلة بالثقافة، مما أدي الي تجريف الوعي وتحول امراض عضوية كالزهايمر والايدز الي امراض نفسية واجتماعية اصابت الذاكرة السياسية علي نحو وبائي، وحدثت تلك القطيعة التي نحاول الان ردم هوتها بين اجيال، وما كان سيمفونيات وطنية كبري اصبح عزفا منفردا ومتباعدا، اما المايسترو فقد وجد نفسه خارج العزف تماما، لأن مفهوم الزعامة وفقهها كما انتهي اليه في زمن القطعنة هو تحول الحكومات المتعاقبة الي حكومات تصريف اعمال، والقادة الي هواة تفرزهم حراكات تأكل نفسها لأنها لا تجد المجالات الحيوية التي تتمدد نحوها ! اما فقدان المناعة الجسدية فقد هاجر الي العقل ليصبح ايدزا ثقافيا . لقد كانت التضحية بالثقافة احدي نتائج حصاد الهشيم الذي انتهت اليه البوصلة العمياء حين تصور البعض انها من الكماليات وان مرتبة الكتاب تأتي في المرحلة الألف بعد الرغيف، لهذا فقد العربي المشيتين، فلم يصبح حمامة ولم يعد غرابا كما انه لم يحصل علي الكتاب ولم يظفر بالرغيف النظيف !! وحين تعلن نسبة الامية المتفاقمة في بعض الاقطار العربية فان اول سؤال يخطر بالبال هو اين كانت الحكومات والنخب والناشطون المدنيون بحيث بلغ التصحر اقصاه، وشمل العقل اضافة الي الارض الزراعية التي تحولت الي سدائب من الحديد والاسمنت وثاني اكسيد الكربون، اضافة الي التراكم العشوائي الذي تحول بدوره الي ثقافة بديلة، واصبح سمة غالبة علي مقاربات فكرية وسياسية وحتي وصفات اقتصادية محكومة بالمحاكاة والنسج بمنوال الاخرين الذين يعيشون في بيئات اسيوية مغايرة ولهم موروث مغاير ايضا ! لهذا كانت الامية بمختلف تجلياتها الابجدية والسياسية والمعرفية المادة الخام النموذجية لافراز العنف وتوفير نماذج صالحة لأن تصطاد في شباك الإرهاب الذي يحاول استثمار الثالوث الأسود وهو البطالة والجهل والموروث علي عواهنه بلا تمحيص او غربلة، بحيث اكتسبت حتي الخرافات قداسة تحرسها من النقد . لقد كان وما يزال الافراط في التوصيف علي حساب التحليل سببا في هذا الفائض النظري من المواعظ والوصفات الممنوعة من الصرف ، وعلي سبيل المثال فقط هناك سؤال سيتحول حتما الي مساءلة سياسية واخلاقية من الاجيال القادمة لهذا الجيل وهو كيف وبأية معجزة اصدر العرب طبعة جديدة من اسطورة ميداس الاغريقي بحيث اصبح يلامس الذهب فيحوله الي تراب، وكيف اصبح حاصل جمع الوفرة الديموغرافية والمواقع الاستراتيجية وفائض الثروات والثورات معا هو هذا المشهد الذي يفرض علي الانسان ان ينزف من دمه ما يكفي لأن يطفو عليه لكي ينجو، وهو بالتأكيد لن ينجو الا اذا صدق تلك الموعظة الخرقاء التي افرزها عصر البطالة والتنبلة والنكاية والغزو كنمط انتاج وهي أُنجُ سعد فقد هلك سعيد ! لقد ادي الافراط في التوصيف الافقي الي تفريط في المعالجات الميدانية، خصوصا وان الواقع العربي الان بحاجة الي مستشفيات طوارئ متنقلة، والاصابات النفسية قد تكون اضعاف الاصابات الجسدية كما يقول السايكولوجست المعروف د . احمد عكاشة ! واذا استمر علاج المرض العضال بكمادات الماء البارد فإن المستقبل هو الضحية، لأن نظرية فرويد الشهيرة عن قتل الابناء للآباء اصبحت في زماننا قتل الاباء للاحفاد واحفاد الاحفاد والاحصاءات التراجيكوميدية التي تتداول عن ان الجنين العربي مدين بعشرات الالاف من الدولارات قبل ان تستلّه القابلة من الرحم تتراجع امام احصاءات اخري تبحث عن حاسوب عبقري لاحصاء خسائر الجيل القادم علي صعيد علمي وثقافي، ومن قالوا ان القانون لا يرحم الجاهلين به، عليهم ان يضيفوا الان ان التاريخ لن يرحم من لم يقرأوه او من قرأوه وحولوه الي حكايات لتزجية الوقت او استدراج للنعاس في القيلولات . المسألة كلها، ومن الفها الي يائها ثقافية، والعامل الحاسم فيها هو الوعي لهذا أنفق علي الغيبوبة القومية ما كان يكفي لوداع آخر أمي في اقصي قرية عربية عن العواصم ! فهل آن الوقت للاعتراف بأن التقشف الثقافي الذي كان ثمنا لسفاهة الاستهلاك هو بيت الداء وبيت القصيد !!؟ لمزيد من مقالات خيرى منصور