هذا الحكم القضائى أيضا مهم. وهذه المرة لأنه يتعلق بالحريات النقابية و الطبقة العاملة وبالمجتمع المدنى إجمالا . وأقصد حكم محكمة القضاء الإدارى فى 26 يونيو الماضى برفض دعوى رئيس اتحاد نقابات العمال (الرسمى ) لالغاء النقابات المستقلة وباحالة مواد فى قانون النقابات العمالية رقم 35 لسنة 1976 استندت اليه هذه الدعوى للمحكمة الدستورية. حقا تأخر ظهور النقابات العمالية المستقلة عندنا طويلا رغم الأخذ صراحة بالانفتاح الاقتصادى منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى و الانطلاق فى سياسات الليبرالية الجديدة مع التسعينيات .وهكذا بقى العمال بلاتنظيمات نقابية تمثلهم بحق وتقوم بالمفاوضة الجماعية فى مواجهة نظام رأسمالى كامل الأوصاف . بل زاد من توحشه هذا الزواج غير المسبوق بين المال والسلطة فى عهد مبارك تحت عنوان رأسمالية المحاسيب . ولم تظهر النقابات المستقلة فى بلادنا إلا فى سياق النضالات العمالية مع العقد الأول من الألفية. وكان أبرزها اضرابات عمال غزل المحلة اعتبارا من عام 2006 و اعتصام موظفى الضرائب العقارية أمام مجلس الوزراء 2007. وهى نضالات وقف ضدها اتحاد نقابات العمال أو لم يكن معنيا بها. وهو الذى لم يبرأ من تبعيته للسلطة السياسية وأمراض البيروقراطية النقابية منذ تأسيسه عام 1957. ولهذا برزت من رحم الإضرابات وغيرها من النضالات قيادات جديدة خارج الاتحاد أسست لاحقا النقابات المستقلة كى تسعى لسد فراغ متعدد الأوجه. فقد ذهبت تقديرات الى أن غالبية العاملين بأجر وبنسبة تقارب الثمانين فى المائة خارج عضوية الاتحاد الرسمى ونحو 90 فى المائة من منشآت العمل بلا تنظيم نقابى. كما نشأت هذه النقابات المستقلة فى مواقع للاتحاد وفى مواجهته نتيجة التخلى عن قضايا العمال والتنكر لنضالاتهم، ونظرا لطبيعة عضويته الورقية وغياب الديمقراطية داخل هياكله وفى بنيته التنظيمية. لذا كان طبيعيا أن يواكب ظهور النقابات المستقلة فى هذه الحالة انسحاب العمال من عضوية الاتحاد الموصوم بالحكومى والمتهم بهيمنة بيروقراطية موالية للسلطة السياسية والسياسات النيوليبرالية عليه. وهذه تماما كانت قصة أول نقابة مستقلة عام 2008 بين موظفى الضرائب العقارية . ولأن دور العمال فى التمهيد لثورة 25 يناير 2011 والمشاركة بها لايمكن انكاره ولأن وزيرا أسبق للقوى العاملة هو الدكتور أحمد البرعى حاول اخراج مصر من القائمة السوداء للدول منتهكة الحريات وحق التعددية النقابية على سجلات منظمة العمل الدولية حصلت هذه النقابات المستقلة على قدر من الاعتراف والتعامل من أجهزة الدولة لم تعهده قبل الثورة . لكن هذا التوجه لم يبلغ مداه ولم يستقر فى تشريعات جديدة تترجم تحولات الواقع والمعايير الدولية. فلا قانون الحريات النقابية صدر الى الآن ولا المكاسب العرفية التى حققتها هذه النقابات المستقلة فى تعامل مؤسسات الدولة معها بقيت على حالها. ولم يكن محض صدفة ان يواكب رفع قيادة اتحاد العمال غير المنتخبة دعوى الغاء النقابات المستقلة مع نهاية عام 2014 هذا الهجوم الواسع والمنسق فى الإعلام والصحف على تلك النقابات. وقد أفردت له صحف تصدر بأموال الشعب والعمال صفحات بلاحساب تحفل بالافتراءات والسخافات وبلغة خشبية تسلطية تعتمد التحريض الأمنى . حيثيات الحكم التاريخى للقضاء الإدارى الأسبوع الماضى تنتصر لمبادئ الحريات والتعددية النقابية فى توقيت يبدو فيه وكأن المجتمع المدنى يتقوض تحت وطأة ثقافة سلطوية تعود بقوة وتنتقم . ومن يقرأ الحيثيات سيتوقف مليا عند هذا الاستدعاء القوى للاتفاقات الدولية بشأن حقوق الإنسان و الحق فى التنظيم التى وقعت عليها مصر و التشديد على الزامية هذه الاتفاقات بمقتضى الدستور والتأكيد على أن نصوص الدستور نفسه ضامنة لتعددية النقابات العمالية. وسيتوقف القارئ بإجلال عند عبارات واضحة ترفض وضع الحركة العمالية المصرية فى قالب التنظيم الهرمى الواحد الموسوم بالحكومى المتنكر لهموم وآمال الطبقة العاملة فى مواجهة الدولة وأرباب الأعمال وتدين الدعاوى التى تضع شعوبها فى مرتبة أدنى فى الحقوق والحريات من شعوب الدول المتقدمة. كما يعيد الحكم الاعتبار الى ثورة يناير ويحذف من عريضة دعوى رئيس اتحاد العمال كل تهجم على الثورة واهانة لها. وحقيقة فقد اقترن الهجوم الضارى على النقابات المستقلة بالعداء لهذه الثورة، وحتى بدا أننا إزاء حملة واحدة تخوض معاركها على عدة جبهات. لكن الزغاريد التى انطلقت فى مجلس الدولة بالقاهرة فور النطق بهذا الحكم القضائى أظهرت للحضور ملمحا لمجتمع يتغير من أسفل ونساء يتقدمن الحركة النقابية الجديدة . وهى ليست وفقط عرفانا مستحقا بجهود المحامى خالد على الذى ترافع دفاعا عن النقابات المستقلة . فلقد سطرت بدورها هيئة المحكمة برئاسة المستشار أحمد الشاذلى صفحة جديدة فى تاريخ القضاء و حقوق العمال وحرياتهم لاتقل أهمية عن الحكم الذى أصدره القاضى محمد أمين الرافعى عام 1987 بمشروعية الاضراب فى قضية عمال السكة الحديد. وبالطبع ليس بالقوانين و أحكام القضاء ومبادئه وحدها يتغير الواقع ويشتد عود الحركة العمالية. ولعل فى الحكم الجديد ما يدفع النقابات المستقلة وقياداتها الى تصويب الأخطاء واستعادة العافية . وصحيح أن النقابات المستقلة بدورها فى أزمة رغم دورها المقدر فى التصدى لقانون الخدمة المدنية الجديد. والطريق الى نقابات مستقلة فاعلة فى المجتمع مازال طويلا . [email protected] لمزيد من مقالات كارم يحيى