أكوام وتلال وأهرامات من الرمال والطين مُشيَّدة بنظام هندسى فريد من نوعه منتشرة فى كافة أنحاء أفريقيا. شاهدتها عبر حشائش السافانا الأفريقية فى تنزانيا، ونيجيريا، وجنوب أفريقيا. كنت أظنّها فى بادئ الأمر تكوينا جيولوجيا من الحجر الرملى . ولدهشتى عرفت أن النمل الأبيض هو الذى قام بتشييدها. وفى بلد مثل زامبيا توجد مثل هذه التلال تقريبا فى كل مكان، وتتفاوت أحجامها من ارتفاعات بسيطة إلى تلال تشبه الأهرامات، يصل ارتفاع بعضها إلى 9 أمتار فوق سطح الأرض، ويصل عرض قاعدتها إلى 15 مترا. وهذه المبانى أقيمت من مواد بسيطة، هى خليط من التربة واللعاب والروث. والشئ المثير للإعجاب أن هذا المعمار الفريد من نوعه، ليس إلا جهاز تهوية لملايين من النمل الأبيض الذين يستوطنون عُشَّهم الواقع تحت الأرض، فمن المستحيل العيش بالملايين تحت الأرض بدون إيجاد وسيلة لتجديد الهواء لهم. وتبدو التلال ظاهريا كأنها حصن منيع، غير أن أسطحها فى الحقيقة مثقبة، فيما عدا قمة التل التى تبقى خالية من الثقوب. وبداخل التل يقوم النمل الأبيض بشق شبكة ممرات شديدة التعقيد، لمرور الهواء خلالها، تبين من دراسة تشعبها، بأنها بمثل سريان الأوعية الدموية فى الجسم، وكلها تلتقى بالداخل عند مدخنة مركزية. والفكرة هى أنه عندما يتسرب الهواء الجوى البارد من خلال ثقوب التل، يمتزج مع الهواء الساخن الصاعد إلى أعلى قادما من عش النمل الأبيض، فيهبط بثقله إلى داخل العش، وتسبب حركة دوران الهواء الدائمة حول التل، انتظام سحب الهواء الساخن من الداخل، وبهذه الطريقة تتم عملية التهوية، فالهيكل بكامله يعمل كرئتين كبيرتين توازنان بين كم الأكسجين وثانى أكسيد الكربون، وتنظمان درجة الحرارة بداخل العش، لتظل ثابتة بمثل ثبوت درجة الحرارة فى جسم الثدييات. ولم يكن من الممكن تشييد بناء بهذه الروعة وهذا التماسك، إلا إذا كانت هناك منظومة متكاملة بذكاء جمعى يطلق عليه العلماء «swarm intelligence». وقام المعمارى «ميك بيرس» «Mick Pearce» بتشييد مركزا تجاريا بالكامل «eastgate centre» فى وسط مدينة هرارى فى زمبابوي، مستوحياً فكرة النمل الأبيض فى نظام التهوية البارع، وبالتقنية نفسها، ليجذب انتباه العالم إلى هذا الإعجاز العلمى الذى تعلمه من النمل الأبيض. وعلى غرار ما فعل فى زمبابوى شيد مبنى آخر فى الجامعة الكاثوليكية بشرق أفريقيا، مستلهما عبقرية النمل الأبيض فى المعمار. وسكان المستعمرة الذين شيدوا هذا التل، يتمتعون بالاكتفاء الذاتي، وينعمون بحياة اجتماعية شديدة التنظيم، والانضباط. ومستعمرتهم تضم العمال، والجنود، والملك والملكة، والجميع بلا أجنحة ولا يبصرون ما عدا الملك والملكة. والعمال هم الغالبية العظمى ويقومون على خدمة الجميع، والجنود برؤوسهم الكبيرة، وكلاباتهم الضخمة، خط الدفاع الأول ضد أى هجوم، الذى غالبا ما يكون من النمل، عدوهم اللدود. وهنا يجب التذكير بأن النمل الأبيض لا علاقة له من بعيد أو من قريب بالنمل. فهو ينحدر من سلالة مختلفة تماما. وتسميته بالنمل ليست بالتسمية الصحيحة. والملك والملكة مهمتهما التزاوج، ولا يوجد تنافس ذكرى حول الأنثى فى المستعمرة، لأن الملك وحده من بين كل الذكور هو القادر على تلقيح البيض. وعلى عكس أنواع أخرى من الحشرات يموت فيها الذكر بعد التزاوج، يظل الملك والملكة المتزاوجان فى النمل الأبيض يعيشان فى وئام مدى الحياة، ربما لأكثر من عشرين عاما. ويعمل النمل الأبيض حساباً دقيقاً ومنظما لكل شئ، من أماكن تجميع المياه، إلى حجرة التزاوج الملكية، التى ترقد فيها الملكة وجسدها منتفخ بالمبايض بشكل لافت، وتكون من الضخامة بحيث لا تقدر على الحركة إلا بمساعدة العمال الذين يقدمون لها كل ما تحتاجه من خدمات ونظافة وتغذية، وحتى مساعدتها على التحرك. وتضع الملكة أعدادا هائلة من البيض تقدر بالآلاف، وبمجرد وضع البيض, يقوم العمال على الفور، بنقله من الحجرة الملكية، إلى الحضانات حيث، يقومون بتوفير الغذاء الذى تتغذى عليه الحوريات بمجرد انبثاقها. والنمل الأبيض يعتمد على الميكروبات الدقيقة العديدة فى أمعائه لهضم مادة السليلوز الموجودة فى النباتات الميتة والأخشاب التى يتغذى عليها، وهو يورث هذه الكائنات الدقيقة المفيدة لخلفته، مع ما يخرجه من فضلات، تتناولها مع الغذاء. بالرغم من الجهد النشط الذى يبذله العمال فى تجميع فتات النباتات والأخشاب, عندما يتسللن فى بعض الليالى الباردة خارج العش. غير أن حاجة النمل الأبيض الدائمة إلى توفير الغذاء داخل عشه يتطلب من جنوده أن يكونوا مزارعين, وهم بالفعل مزارعون مهرة, وما يقومون بزراعته, هو نوع من الفطريات يفضلونه, لترممه على الأخشاب. يوزعون الفطر على الغرف العديدة الموجودة بعشهم . يحرصون على رعايته ليصبح بمثابة حقول مثمرة, فى علاقة تكافلية تقوم على مبدأ تبادل المنفعة. حيث أنهم يقومون بتغذية الفطر الذى يزرعونه بما يخرجونه من فضلات وبما يجمعونه من فتات الخشب, والفطر بدوره يعمل على هضم مادة السليولوز بالخشب وتحويلها إلى سكريات أقل تعقيدا, لتتحول بعد ذلك فى أمعاء النمل الذى يتغذى عليها إلى سكريات بسيطة يسهل امتصاصها. والفطر بمثابة غذاء مستديم لأفراد المستعمرة, ولحكمة استمراريته فى الحياة وفى التكاثر, تخرج أبواغ الفطر مع الفضلات بدون أن تهضم لتنمو لا جنسيا إلى فطر جديد, بما يضمن تكاثر الفطر واستمرارية وجوده كغذاء للنمل الأبيض داخل العش. الشئ الجدير بالذكر أن هذه الفطريات تقدم فى المطاعم الفاخرة فى أماكن معينة فى أفريقيا. غير أن النمل هو الذى تفوق على الإنسان فى زراعة الفطر بتوفير البيئة الصالحة لنموه, بينما فشل الإنسان فى زراعته. وفى أوغنداوزامبيا الطبق المفضل للأطفال هو ملكات النمل الأبيض وهى غنية بالبروتين. وهم يصطادون المجنحات مع أول سقوط للمطر, حيث أنهم بحلول الظلام يخرجون فى جماعات من فتحات فى التل, ولا يقدرون على الطيران لمسافات طويلة لرقة أجنحتهم وهشاشتها. ويسهل اصطيادهم بمجرد خروجهم بتسليط مصدرضوء عليهم, يتلقفون من يسقط منهم فى آنية ممتلئة بالمياه. وهناك طرق أكثر تقدما, ففى أوغندا مثلا يصممون مصائد من أنابيب فخارية, يتم تركيبها على الفتحات التى سوف تخرج منها المجنحات. واصطياد الجنود أكثر صعوبة لأنهم لا يطيرون, ولاصطيادهم من عشهم يغرسون عصا خشبية رفيعة طويلة, مبللة باللعاب, يهب الجنود للدفاع, وبكلاباتهم القوية يقبضون على العصا, ويخرجون من عشهم وهم عالقون بها. والأكثر مدعاة للدهشة صمود هذه التلال الحصينة أمام عوامل التعرية, والجوية, لمئات السنين. بل أنه يوجد فى منطقة مايومبو بإقليم لوبومباشى فى جمهورية الكونغو الديموقراطية تلا مهجورا للنمل الأبيض, هو الأقدم من نوعه, يقدر عمره ب2200 عاما باستخدام تقنية نظير الكربون المشع, الذى يقارن نسبة وجوده فى التربة بالكربون الطبيعي. وتم العثور على تلٍ آخر قدر عمره ب750 عاما. والذى قاد فريق البحث عن التلال القديمة وتحديد أعمارها, العالم «هانز إيرنس» بالتعاون مع فريق من الباحثين بجمهورية الكونغو الديموقراطية. ويسود الاعتقاد بأنه يوجد بجنوب أفريقيا تلالا للنمل الأبيض يصل عمرها لأكثر من ألفى عام. وأثبتت الدراسات أن الغطاء النباتى حول تلال النمل الأبيض والقريب منها ليس إلا نتيجة الأنفاق العديدة التى شقها النمل الأبيض فى التربة, وهو الشئ الذى يؤدى إلى تفتيتها, ويساعد على زيادة قابلية مياه الأمطار لاختراقها. ولهذه الخاصية أهميتها البيئية فى الأراضى الجافة, والصحراوية, خاصة فى موسم الجفاف, لأن وجود غطاء نباتى فى هذه المناطق المنتشرة فى مساحات واسعة فى أفريقيا, يمنع جفاف الأراضى الصحراوية, ويحد من ظاهرة التصحر, وقد شاهدت ذلك بنفسى فى الأراضى الصحراوية فى ناميبيا, حيث تنتشر الأعشاب, والشجيرات بشكل واضح فى المناطق التى توجد فيها تلال النمل الأبيض. كما لو أنها بجوار مصدر مائى لا ينضب معينه حتى فى موسم الجفاف. فى مالاوى يستغلون هذه الخاصية, ويزرعون الموز بجوار الأعشاش لخصوبة الأرض. بل أن هناك من المزارعين فى زامبيا من يجرفون التربة التى سكنها النمل الأبيض بالكامل, ليضعونها كسماد طبيعى فوق الأرض التى يزرعونها لتحسين الناتج من المحصول. ومن اللافت للنظر فى منطقة سونجيا فى تنزانيا, تلك البيوت التى شيدت بالطوب المحروق من حطام تلال النمل العديدة المهجورة, والمنتشرة فى تلك المنطقة, وهى أراض غنية بالطمى وبمعدن الحديد. وللحيوانات نصيب من الاستفادة بوجود هذه التلال فى المناطق التى يعيشون فيها, خاصة لو كانت مهجورة, فيلجأ الحيوان إليها للاختباء, أوالاحتماء, الثعابين, والعقارب, والسحالي, وبعض الثدييات الصغيرة مثل القوارض. بل إن بعض الحيوانات تتسلق قممها لترى المحيط بشكل أفضل.