لقد جَعَلَ الله تبارك وتعالى الصَّوْمَ حِصْنًا لِأَوْلِيَائِهِ وجُنة، وفتح لهم به أبواب الجنة وأخبرهم بأن طريق الشيطان إلى قلوبهم هو تلك الشهوات المستكنة، وأن بقمعها والسيطرة عليها تصبح النفس ظاهرة الشوكة، قوية الشكيمة فى مواجهة خصمها ورد كيده. وللصوم منزلة عظيمة بين سائر العبادات، فالصوم ربع الإيمان بمقتضى قول النبي، صلى الله عليه وسلم: «الصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْر» [سنن الترمذي] وبمقتضى قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «الصَّبْرُ نِصْفُ الإيمان»[حلية الأولياء]. والصوم يتميز من بين سائر العبادات والأركان بشرف النسبة إلى الله تعالى إذ قال الله تعالى فيما حكاه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم : «كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لى وأنا أجزى به» [مسند أحمد] وقد قال الله تبارك وتَعَالَي: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»[الزمر:10]. والصوم نصف الصبر فقد جاوز ثوابه قَانُونَ التَّقْدِيرِ وَالْحِسَابِ. والسؤال هنا: هل كل ما يطلب من الصائم هو أن يكف نفسه عن شهواتها وانفعالاتها، وأن يغلق منافذ حسه، ويسكت صوت الهوى فى نفسه، وليس أمامه عمل إيجابى جديد يسد به هذا الفراغ؟! لو كان الصوم بهذه الصورة لكان مجرد انتقاص للطاقة العاملة من ناحية، دون إمداد لها من ناحية أخري، ولكان على حد تعبير العلماء تخلية بلا تحلية، أو تجارة مأمونة الخسارة .. فهل شريعة الصوم فى الإسلام هى تلك الصور العارية الجرداء؟! إن الصوم عبادة ذات شطرين وليس شطرها الأول - وهو الصبر- إلا تمهيداً وإعداداً لشطرها الثانى فالصوم شجرة جزعها الصبر والتحمل، والله عز وجل لا يريد للصائم أن يترك هذا الجزع قاحلاً ماحلاً بل يريد أن ينبت على جوانبه أغصاناً من الشكر، وأن يتوج هامته بأوراق وثمار من الذكر والفكر، وإن من تأمل وتدبر وأمعن النظر فى كلمة (التقوي) التى عبر بها القرآن الكريم فى بيان حكمة الصيام :«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»[البقرة:183] يجدها منطوية على هذين الشطرين؛ فهى فى شطرها الأول كف وانتهاء وابتعاد واجتناب، لكنها فى شطرها الثانى إقبال واقتراب وإنشاء وبناء، إن الحكمة العظمى والمقصد الأسمى من الصوم أن يكون إغلاق منافذ الحس فتحاً لمسالك الروح، وأن يكون إسكات صوت الهوى تمكينا لكلمة الحق والهدي.