فارق شاسع بين أن تتابع المأساة على شاشات التليفزيون و بين أن تراها أمامك مجسدة من لحم و دم ! بسمان سالم السراج لاجئ عراقي نجا بأعجوبة من رحلة الأهوال عبر أمواج البحر و شاحنات الموت و لصوص غابات أوروبا الشرقية حتى وصل أخيرا الى بلجيكا و تم قيده في برنامج استقبال اللاجئين . باع سيارته و ترك منزلا جميلا و خرج سيرا على الأقدام بصحبة أطفاله و زوجته في جنح الليل يبحث عن المجهول هربا من قذائف تنظيم داعش الإرهابي . لم يكن - على عكس المتوقع - سعيدا بوصوله أخير ا لمرفأ الأمان ، فخلفه عائلة لا يعرف بالضبط متى يراها مجددا . يسعى لتلوين نبرته بشيء من المرح ابتهاجا بالشمس المشرقة التى غمرتنا بدفئها النادر و نحن نلتقى باحدى حدائق بروكسل العامة . - لنعد الى البدايات الأولى ..لماذا كان قرارك بالرحيل عن الموصل ؟ -عمري ستة و اربعون عاما ..أنتمى الى عشيرة « السراج « ..عملت ممرضا بقسم العناية المركزة لقسم جراحة الجملة العصبية بمستشفي « أبو سينا « بالموصل علما بأني متخرج في كلية العلوم ، قسم الكيمياء . عندي ولدان توأم عمرهما تسع سنوات « هيثم « و « بشرى « .الزوجة ربة بيت رغم حصولها على بكالوريوس كلية علوم الحاسوب . كنت أمتلك سيارة و منزلا و حياتي مستقرة و جميلة في حي « البريد « الراقي الذي يعد واحدا من أرقى الاحياء بالمدينة . عند سقوط الحكومة المحلية في محافظة نينوى التى تعد الموصل عاصمتها على يد ما يسمى تنظيم الدولة الاسلامية « داعش « كان قرار الرحيل . - هل تعرضت أسرتك لأخطار من قبل «داعش» ؟ - أصبحت المدينة عندما غادرناها ساحة حرب عنيفة بين داعش و بين القوات الحكومية ومن تحالف معها من ميلشيات مرتبطة بايران وقوات أمريكية . كانت القذائف الصاروخية تدك البيوت الآمنة و نفاجيء بأشلاء الجثث تتطاير في مشهد مروع لا يصدقه العقل .أصبح قرار المغادرة حتميا، لا سيما أن القوات الحكومية كانت تقصف الأسواق الآمنة في ساعات الظهيرة وهى مليئة بالزبائن . و هناك تفاصيل أخرى كثيرة أفضل السكوت عنها و عدم التطرق إليها حفاظا على حياة من بقى من أهلى و عشيرتى . اضطررت الى بيع السيارة لأغطى نفقات رحلة الهجرة و اللجوء أما المنزل فلم أتمكن من بيعه . - كيف كانت الرحلة من العراق الى تركيا ؟ - لم تخل من الصعوبات حيث عبرنا في البداية عبر الطريق البري الى الحدود السورية - التركية مشيا على الأقدام و أثناء الليل حتى لا تقبض علينا الشرطة التركية كما حاولنا تجنب عناصر داعش المتواجدين بالشطر السوري من الحدود . كنا نحو مائة شخص معظمنا عوائل و نخطو بصحبة أطفالنا الذين كتب عليهم أن يعيشوا هذه التجربة المريرة . وقبل الانتقال الى الاراضي التركية ، مررنا على نقاط تفتيش أقامها « داعش « حيث تم أخذ بصمات أصابعنا من قبل عناصره على الحدود الذين يحتفظون بأجهزة كمبيوتر متطورة هناك و اطلعوا على بطاقات الهوية الخاصة بنا ثم تركونا نغادر . كانت ساعة المغادرة من المنزل فجرا ووصلنا الى الحدود السورية ليلا ، ومن هناك « ميكروباص « الى مدينة أورفا التركية ومنها الى مدينة سكاريا . بقينا في الدولة التركية نحو سبعة أشهر على أمل أن تعود الامور الى سابق عهدها بالموصل و أتمكن من العودة الى منزلي بصحبة اسرتى . طال الانتظار ولم يحدث شيء ، بل كانت الأمور تسير من سييء الى أسوأ . - كيف كانت فترة الاقامة طوال السبعة الاشهر ؟ - الحياة في تركيا بحاجة الى عمل حتى أستطيع الانفاق على العائلة ودفع الايجار حيث استأجرت شقة متواضعة للغاية . في الواقع لم تكن شقة بل غرفة «بدروم» مخصصة للخدم باحدى البنايات بعد أن كانت أسرتى تسكن بمنزل جميل يمتد على مساحة مائة و خمسين مترا دوبلكس. المشكلة أن العمل غير مسموح لنا نحن العراقيين الفارين من جحيم الحرب الى تركيا فضلا عن أنه يتطلب تعلم اللغة التركية التى هي شديدة الصعوبة، وإذا اتيحت فرصة للعمل في هذه الظروف فهو عمل غير شرعي ونتقاضى فيه نصف الأجر بأحسن الأحوال . وبالطبع تشرد أولادي من المدارس حيث لم تمنحنا السلطات التركية الاقامة، والحياة صعبة في المجمل. قدمت طلب لجوء انساني الى مكتب مفوضية اللاجئين التابع للامم المتحدة بأنقرة لاعادة توطيني بالولايات المتحدة او كندا او استراليا . وكانت المفاجأة أن البت في الطلب يستغرق على الاقل من ثلاث الى خمس سنوات . - من شجعك على قرار اللجوء الى أوروبا ؟ - اتخذت القرار نظرا للوضع الذي أنا فيه خاصة اصابة احد ابنائي بالقلب وتشوهات خلقية تستلزم عمليات تصحيح في كثير من الاماكن. ولأن الرحلة محفوفة بالمخاطر، فضلت ترك الاسرة بتركيا حتى لا يخوضوا معى أهوال الرحلة الى أوربا . لم يكن القرار سهلا وكان لابد من الاختيار بين السييء والأسوأ. - كيف كانت بداية الرحلة ؟ - اخترت بلجيكا باعتبارها العاصمة السياسية لاوروبا و نظرا لتعدد الثقافات كما ان معاملات طلبات اللجوء أسرع و الاهم اجراءات لم الشمل العائلى تنتهى بشكل أسرع . ودعت أسرتى وتوجهت نحو مدينة « إزمير « الساحلية التى تعد مركزا لانطلاق رحلات الهجرة الى اوروبا . هالنى عدد العوائل التى تنتظر دورها حتى تحصل على مهرب جيد . التقيت شابا سوريا من أحد هؤلاء الذين يتم تدريبهم من قبل المهربين على قيادة القارب مقابل الا يدفع اجره الذي يتراوح من الساحل التركي حتى جزيرة «ماتليني» اليونانية. كلفة الرحلة الف وأربعمائة دولار للفرد الواحد. تجمعنا بأحد الفنادق ثم ركبنا الباص ثلاث ساعات الى نقطة غير مأهولة . كانت الجزيرة اليونانية تلوح امامنا على الشاطيء الاخر . بقينا هناك حتى هبوط الليل غير ان خفر السواحل التركي كان يقظا فانتظرنا حتى الصباح . كان المهرب تركيا. تم نفخ الزورق المطاطي الذي كان طوله نحو تسعة امتار ويسع لعشرين شخصا كحد اقصى في حين كنا سبعةو أربعين شخصا . وبسبب كثافة العدد سرنا ببطء واستغرقت الرحلة ثمانين دقيقة رغم انها لا تتجاوز في الظروف الطبيعية اكثر من عشرين دقيقة بسبب قرب الجزيرة اليونانية . - من اتفق معكم على المبالغ التى ستدفعونها ؟ - شاب سوري آخر تقاضى المبلغ نقدا قبل ان نركب الباص المتجه نحو النقطة الحدودية غير المأهولة . كانت الجزيرة اليوناينة جبلية صخرية وعرة فسرنا نحو ثلاث ساعات سيرا بالاقدام حتى نصل لمركز الجزيرة . و هناك أخذنا باص حيث تم تسجيل اسمائنا بمركز استقبال لاجئين هناك وسجلت اسمي باسم سوري حتى تنتهي الاجراءات سريعا حيث سبق ان عرفت انني لو سجلت نفسي كعراقي تستغرق الاجراءات نحو اسبوع . اخذنا الباخرة نحو اثينا في رحلة استغرقت اثنتي عشرة ساعة . بوسط اثينا تفرقنا ثم تجمعنا بمحطة قطار واتجهنا صوب مدينة سالونيك شمالى اليونان على الحدود مع مقدونيا . ومن القطار استقللنا تاكسيات اخذتنا الى فندق يسمى «هارا» ووجدناه مليئا بعائلات اللاجئين . كنا نتحرك في مجموعات كبيرة خوفا من عصابات اللصوص التى تهاجم اللاجئين بأعداد كبيرة تصل لعشرين و ثلاثين لسرقة هواتفنا او اموالنا . بعد ذلك عبرنا الى الحدود البرية بمقدونيا ثم اخذنا رحلة قطار الى حدود صربيا . وصلنا اخر النهار حيث اوقفتنا الشرطة الصربية و بعد التاسعة ليلا انسحبت تاركة الحدود مفتوحة امامنا . - بماذا تفسر موقف الشرطة بفتح الحدود أمامكم رغم تشددها مع اللاجئين عموما ؟ - لا أعرف تحديدا ، ربما كانوا يريدون التخلص منا سريعا لأن صربيا بالفعل تسمح بدخول حدودها بشرط أن نغادر أراضيها بعد مدة مبيت مؤقتة لا تتجاوز عدة ليال فهى عموما لا تعطى لجوءا . - و كيف كان المبيت بالمناطق الحدودية الصربية ؟ - السلطات الصربية تعطى اللاجئين ما يسمى ب «وثيقة طرد» بما يعنى انها بلد عبور و ليس لجوء أو اقامة ونغادره في مدة اقصاها اسبوع. رفضنا استلام الوثيقة، ثم أخذنا سيارة من المنطقة الحدودية الى موقف باصات ومن هناك تحركنا في الباص الى العاصمة بلجراد حيث قضينا ليلة واحدة في حديقة عامة. وطبعا هذا يمثل مشكلة للعوائل بنسائها واطفالها أما الشباب فيستطيعون تدبير حالهم. في الصباح أخذنا باص الى مدينة حدودية لا أتذكر اسمها بين صربيا والمجر وتفرقنا بمجموعات حيث جاءنا مهربون ودفع كل منا الف وتمائة يورو حتى نعبر من صربيا الى فيينا. وكان نفس الشخص السوري الذي كان يعد قائد المجموعة هو الذي يتولى جمع ودفع المبالغ المالية للمهربين . - هل كان هذا السوري موضع ثقتكم ؟ - نعم ، لأننا رأيناه بصحبة زوجته و امرأة أخيه و أطفاله الاثنين . - من أدراك أن السعر الذي دفعته هو نفسه الذي سيدفعه للمهربين ؟ - العبور من تركيا لليونان له تسعيرة معروفة للجميع ومتاحة على الانترنت، وكذلك تسعيرة المهربين من صربيا الى فيينا ولا تنس أن الغرض من دفع تلك المبالغ للمهربين هو تأمين طريق عبور آمن بعيدا عن الوقوع في يد الشرطة حيث أننا لو تم الامساك بنا لا قدر الله من جانب عناصر الشرطة المجرية على سبيل المثال واخذت بصماتنا لن يحق لنا الحصول على اللجوء في البلاد الغنية التى يستهدفها اللاجئون عادة مثل المانيا و بلجيكاوفنلندا والسويد، حيث أن اتفاقية دبلن المعمول بها في الاتحاد الاوربي تنص على ان أول دولة يدخلها اللاجيء وتحصل على بياناته و بصمات اصابعه هى المسئولة عن ملف اللجوء الخاص به. ولذلك يتجنب اللاجيء الوقوع في قبضة السلطات المجرية لأنها موقعة على الاتفاقية أما صربيا فغير موقعة اصلا . - كيف كانت رحلة العبور الى فيينا ؟ - من المنطقة الحدودية الصربية - المجرية اخترقنا غابة شاسعة بعد الساعة الثانية ليلا حتى لا نقع في يد الشرطة ثم اجتزنا حقل قصب سكر لا يرانا فيه احد بسبب ضخامة النبات. بعد ذلك سرنا في حقول مكشوفة و كنا نركض حتى لا تكشفنا الاضواء الكاشفة لعناصر حرس الحدود ؛ ثم وصلنا الي طريق عام حيث كانت بانتظارنا سيارات المهربين التى سوف تأخذنا الي العاصمة النمساوية فيينا مخترقة المجر . - هذه هي سيارات الموت التى تشبه سيارات ترحيلات السجون في البلاد العربية ؛ كيف كانت ؟ - السيارة تسع عشرين شخصا حد أقصى و كنا بداخلها سبعة وأربعين ! جميعنا وقوف لا يوجد منفذ تهوية ونعاني من صعوبة بالغة في التنفس وبعض النساء تعرضن لدوخة واغماء بسبب هذا الموقف غير الانساني . وكنا نعرف أن السائق لا يمكن أن نلجأ اليه في حالات الطواريء او الاستغاثة الطبية لأن وقوفه معناه القاء القبض عليه والسجن خمسة عشر عاما بتهمة الاتجار في البشر! وصلنا النمسا في الصباح الباكر نحو الرابعة. تركنا السائق وقال: لقد وصلتم! البعض اتجه الى المانيا أما أنا فكنت أتجه الى بلجيكا. - كيف وصلت الى بلجيكا ؟ - ذهبنا الى شقة احد السوريين بفيينا الذي تركها لنا لمدة ليلة و دفع كل منا خمسين يورو نظير المبيت . في الصباح جاءنا شخص عراقي وتحصل على مبلغ الف و مائة يورو لمن يتجه الى بلجيكا والف و خمسمائة لمن يتجه الى فنلندا . قال سوف اتصل بكم في الرابعة ظهرا حيث سوف تأتيكم سيارة و بها تذاكر الطيران مع السائق . وبالفعل هذا ما تم. كان السائق مصريا و تولى توزيع التذاكر علينا وأرشدنا الى رقم البوابة و رقم الرحلة و موعدها. كانت تعليماته أن ندخل المطار متجهين مباشرة دون أن التحدث مع احد عناصر الشرطة ؛ و اذا استوقفنا أحد فقط نظهر له التذكرةو لا نخوض في اي تفاصيل. وبالطبع هو يعتمد على أن الرحلة داخلية من والى احد بلدان الاتحاد الاوربي و بالتالى لا يوجد تأشيرة أو مرور على ضابط جوازات . أيضا كانت التعليمات ألا يوجد معي حقيبة ملابس او جواز سفر أو شيء . مرت الرحلة على خير . ومن مطار العاصمة البلجيكية بروكسل أخذت قطارا الى محطة مترو «نورد» حيث مكتب استقبال وتسجيل اللاجئين هناك . - ماذا فعلت هناك ؟ - وصلت قبيل الغروب . كان المكتب مغلقا، فاضطررت أناو من معي للمبيت في الحديقة، ثم ليلة أخرى في المحطة نفسها. وتعرفنا على شاب عراقي لاجيء جاء في اليوم التالي من بين مائة وافد يصلون كل يوم، وأخذنا الى صديق له حيث قضينا ليلة ثالثة في مدينة انتويرب شمالى بلجيكا . بعد ذلك بدأنا اجراءات التسجيل بمكتب استقبال الاجانب ومن ثم تم تحويلنا الى معسكر للاجئين يسمى «بيتي شاتو» الذي يضم نحو ثمانمائة و خمسين لاجئا ينتظرون البت في طلباتهم إما بالقبول وبالتالى يعيشون هنا الي الابد أو بالرفض فيعودون من حيث أتوا . - متى يصدر هذا البت النهائي ؟ - بعد نحو شهر من المقابلة الأخيرة التى تجريها السلطات معنا هي في العادة تجري نحو ثلاث مقابلات تستغرق من ثلاث الى ستة أشهر. - والى أن يتم البت ، كيف تعيش ؟ - في معسكر اللاجئين تضم القاعة الواحدة نحو عشرة أسر ويخصص لنا ثلاث وجبات يومية تتكون غالبا من أجبان و لانشون و سلطات وزبدة ومربى وخبز. أما البيض و اللحوم و الدجاج و الاسماك فمرة بالاسبوع. وتوفر لنا السلطات دروسا لتعليم اللغة الفرنسيةو الهولندية ، فضلا عن الخدمات الطبية الكاملة، والغسالات لغسل الملابس، والرحلات الترفيهية، كما أنه يوفرون لنا قاعة كمبيوتر . - كيف تنظر الى التظاهرات الرافضة لقدوم اللاجئين الى أوروبا والتى تندلع بين الحين والآخر لاسيما في ألمانيا وأوروبا الشرقية؟ - لا أفهم مبررات هذه التظاهرات، ولا أعرف كم هى أعداد المشاركين بها والى أى حد تمثل أفكارهم تيارا قويا في المجتمعات الاوروبية . - هم يدعون بأن تدفق اللاجئين يهدد التركيبة الديموغرافية لسكان أوروبا وسيجعل المسلمين هم الاغلبية في المستقبل؟ - هذا يمثل جانبا من مخاوف مبالغ لدى تيار ضئيل للغايةو لا يمكن أن نعمم هذه الفكرة على الكتلة الاكبر في المجتمعات الاوربية، لا سيما مما رأيته بعيني من دعم نشطاء أوربيين لحق اللاجيء وأهمية مساعدته على جميع المستويات باعتبار أن ذلك أحد الالتزامات التاريخية لأوروبا . - ألا يخيفك أحيانا أن تصل الاحزاب اليمينية المتطرفة التى تتبني موقفا سلبيا من اللاجئين الى سدة الحكم في أكثر من بلد أوروبي كما هو الحال في بلجيكا على سبيل المثال؟ - لا يخيفنا ذلك لأننى كما سبق واوضحت، فإن الالتزامات الاوروبية تجاه الفارين من الحروب والكوارث الانسانية هى التزامات ثابتة بموجب اتفاقيات وعهود و ليست مجرد سياسة حزبية عابرة ، كما أن الرأي العام الاوروبي بمجمله مساند لحقوق اللاجئين .