ما زالت داعش تحتل مساحات شاسعة من العراقوسوريا, والحرب الأهلية مازالت مستمرة فى اليمن, والأتراك والأكراد ملتحمين عسكريا وحكومة الوحدة الوطنية فى ليبيا التى ترعاها الأممالمتحدة تظل متعثرة, وفى سوريا الجميع يقتل الجميع, واللاجئون من الجحيم السورى يتدفقون على حدود كل الجيران... وطالبان مازالت تسيطر على أفغانستان وتروع باكستان, وإسرائيل تعربد فى المنطقة, وملالى إيران يشكلون سياسات جديدة وشديدة الطموح للشرق الأوسط... وسط كل هذه الفوضى, يأتى واحد من أبرز المؤرخين العسكريين الأمريكيين ليقول ان المسئول الأول والأوحد عن هذا الكابوس الشرقى هو وبشكل مباشر التدخل العسكرى الأمريكى فى المنطقة.
ففى أحدث كتب المؤرخ البارز, أندرو باسيفيتش "حرب أمريكا فى الشرق الأوسط الكبير" والذى صدر منذ أيام قليلة بالولاياتالمتحدة, لخص التدخل الأمريكى العسكرى فى منطقة الشرق الأوسط بحرب واحدة طويلة الأجل ممتدة على مدار 35 عاما, بدأها الرئيس الأمريكى جيمى كارتر عندما تدخل عسكريا فى أفغانستان لمحاربة النظام المدعوم وقتها من السوفيت, فكانت النتيجة, تزايد انتشار الإسلام الراديكالي, ثم إعلانه أن الولاياتالمتحدة سترد بقوة عسكرية على أى تدخل للاستيلاء على حقول النفط فى الخليج العربي، ويؤكد باسيفيتش أن هذا الإعلان من قبل كارتر كان إيذانا بشن حرب أمريكية واحدة وطويلة فى الشرق الأوسط الكبير. كتاب باسيفيتش، أستاذ العلاقات الدولية والتاريخ العسكرى بجامعة بوسطن, هو الثامن من سلسة من الكتب التى يؤرخ فيها لوحشية التدخل العسكرى الأمريكى حول العالم, وهو فى هذا الكتاب يقدم سردا تاريخيا لما يسميه الدور الخبيث الذى لعبته العسكرة فى إضعاف دور السياسة الخارجية الأمريكية, على مدار أكثر من عشرة تدخلات عسكرية فى منطقة الشرق الأوسط بدأت مما يطلق عليه عثرات كارتر فى السبعينيات إلى الاستخدام الواسع النطاق من قبل الرئيس الحالى اوباما فى عمليات الهجوم بطائرات دون طيار. ويكتب: "غمرت الولاياتالمتحدة منطقة الشرق الأوسط عسكريا, بسبب اعتقاد خاطئ أن حق الأمريكيين "الشرعي" فى خطر, فبعد الحرب العالمية الثانية أشار جورج كينان, المسئول عن تخطيط السياسات الخارجية ومهندس سياسة الاحتواء خلال الحرب الباردة , إلى أن الولاياتالمتحدة تملك نحو 50% من ثروات العالم ولكنها تمتلك 6.3 % فقط من سكان العالم, وان التحدى الحقيقى الذى يواجه صناع السياسة الأمريكية هو خلق نمط من العلاقات الاستراتيجية مع العالم الخارجى يسمح لأمريكا بأن تحافظ على هذا الوضع دون المساس بأمنها القومي. بعد نصف قرن نجحت هذه الإستراتيجية وإنهار الاتحاد السوفيتي, ولكن بعد فترة الحرب الباردة ظل جهاز الأمن القومى الأمريكى يتبع سياسة عفا عليها الزمن حيث ظلت واشنطن تؤمن بأن الوسيلة الوحيدة لتأمين الوضع الذى وضحه كينان هو من خلال "تشكيل" النظام العالمى وأصبح هذا التشكيل مهمة الجيش الأمريكى منذ عام 1992، وقد وضع صيغته الجديدة والممتدة حتى الآن بول وولفويتز مساعد وزير الدفاع الامريكى السابق ومهندس احتلال العراق عام 2003, الذى قال بفخر أن هذه هى "البيئة الدولية الجديدة" التى شكلها الانتصار على صدام حسين عام 1991, وقدم مخططا لشرح كيف أن القوة الأمريكية يمكنها صياغة مستقبل منطقة الشرق الاوسط, بإستخدام القوة العسكرية للحفاظ على موقف أمريكى متميز فى المنطقة. فى البداية بدا وولفويتز واثقا أن الجبروت الأمريكى يمكنه وحده القضاء على جميع مصادر عدم الاستقرار فى المنطقة, ومرت العقود دون أن يتم تلبية هذه الرؤية حتى ولو من بعيد. ويرى باسيفيتش أن الدوافع التقليدية وراء ميل واشنطن للتدخل, كانت عادة, تعطش الولاياتالمتحدة إلى النفط العربى والحاجة إلى تقوية الصناعات العسكرية وأيضا البحث الدائم عن أعداء جدد, ويضيف إلى كل هذا أسبابا أخرى غير تقليدية منها كما يكتب:" التنافس الساذج والمتواصل بين الجمهوريين والديمقراطيين الذين يؤمنون أن دس أنوفهم فى شئون الآخرين هو أمر محتوم." ويبدو ان الآخرين دوما كانوا العرب. كما أنه يحمل المسئولية على الأمريكيين أنفسهم الذين رضوا بان يتم إغفال رأيهم فى سياسات بلدهم الخارجية واكتفوا بممارسة حماسة رقمية ضحلة على صفحات التواصل الاجتماعى وعبادة المشاهير. يكتب باسيفيتش " لطالما دعم الأمريكيون الحرية والديمقراطية والازدهار فى الدول الأخرى, لكن بشرط أن يحصلوا من خلال ذلك على حصة الأسد" إنها ما يعتقد الأمريكيون أنه حصتهم الشرعية من تدخلهم العسكرى كى يحصل الآخرون على حريتهم وأمنهم, المهم هو الثمن الذى سيناله الأمريكيون نتيجة هذه الحرية حتى لو كان قتل الآف المدنيين.... يحاول باسيفيتش أن يروى عددا مما يطلق عليه "الأساطير المدمرة" حول فاعلية القوة العسكرية الأمريكية, منها السياسة العمياء التى يتبعها صناع القرار الأمريكى والجنرالات والناخبون, ومن هذه السياسات العمياء تصور انه بمجرد استخدام القوة المميتة الساحقة فى القضاء على الطغاة أو الإرهابيين فإنهم سيجرون أذيال الخيبة ويهرولون بعيدا، أو أن هذا ما يريد صناع السياسة فى واشنطن أن يصدقوه, لكن الواقع انه غالبا ما يؤدى إلى الاستياء والفوضى والمقاومة المسلحة فى الدول التى يحدث فيها التدخل العسكرى الأمريكي. ومن هذه الاساطير ايضا افتراض أن استخدام القوة المباشرة يغنى عن دور الدبلوماسية, لقد قررت واشنطن أنه بدلا من أن تكون القوة العسكرية خادمة للدبلوماسية وتأتى بعدها بمراحل , أن تصبح هى الخيار الأول, ثم تأتى الدبلوماسية بعدة بمراحل. وفى خطأ متكرر آخر, يعلن القادة العسكريون الأمريكيون عن الانتصارات العسكرية قبل أوانها, دون أن يدركوا أن خصمهم قد انسحب بالفعل, وذلك هو ما حدث فى أفغانستان 2001 والعراق 2003, كما أنهم يضفون الطابع الشخصى على العدو, مع افتراض خاطئ بان القضاء على شخصيات مثل صدام حسين أو أسامة بن لادن أو معمر القذافي, كفيل بإنهاء الصراع على الفور. ومن الصومال عام 1993 إلى اليمن اليوم, تظل المبالغة فى تقدير القادة العسكريين الأمريكيين والتكنولوجيا العسكرية الأمريكية, سببا فى عدم رؤية صناع السياسة لحقيقة واضحة هى أنهم فى الواقع لا يعترفون بأنهم فى حالة حرب من الأساس. وفى حالة الحرب الأمريكية على الشرق الأوسط الكبير, لم تحدد واشنطن ما إذا كانت ستتبع سياسة الاحتواء أم السحق, وبدلا من ذلك وقفت فى منتصف الطريق, وعملت على التحريض وإتباع سياسة التخويف دون أن تدرك، أو حتى تعترف لنفسها أن القوى التاريخية فى الشرق الأوسط تختلف تماما عن القوى المحركة التى أدت إلى انتصارات عسكرية فعلية فى الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة, وأصر صناع القرار فى واشنطن على الجرى وراء أوهام انه مع مرور الوقت سيتم إجبار "العالم الإسلامي" على تبنى وجهات النظر الأمريكية فى كل تفاصيل الحياة اليومية. ويطرح باسيفيتش سؤالا ملحا فى هذا الكتاب, لماذا فى مواجهة هذه الخسائر العسكرية والواضحة فى الشرق الأوسط لا تتخذ واشنطن مسارا مختلفا؟ وبما أنها لم تفز فى هذه الحرب لماذا لا تستطيع الخروج من المنطقة؟ الإجابة أيضا يقدمها الرجل بوضوح, أن الولاياتالمتحدة تفرض أنها تعمل كقوة عظمى منفردة, هذه الغطرسة تفقد صناع القرار فى واشنطن الحكمة وتجعلهم يؤمنون أن استخدام القوة المباشرة سوف يحرك التاريخ نحو رغبتها على نحو محتوم, إضافة إلى أن النخب فى واشنطن تعتقد أن نوايا أمريكا تظل طيبة, طالما كانت تحظى بقبول شعبى واسع النطاق فى الداخل. يكتب باسيفيتش:"لقد اختارت النخب الأمريكية منطقة الشرق الأوسط لاختبار فرضياتهم " ويرى انه كان خيارا غريبا, فلم يكن الشرق الأوسط أبدا فى الواقع مهما للولايات المتحدة, ومع الوقت أصبح بشكل متلاحق اقل أهمية." ولكن الخطأ الجوهرى كان مبالغة مؤسسة السياسة الخارجية فى قدرة القوات الأمريكية على تغيير مسار السياسة الدولية. فقد أثبتت العقود الثلاثة الأخيرة أن الشرق الأوسط مشكلة يصعب القضاء عليها عسكريا, وان وجود القوات الأمريكية هنا خلق مقاومة أكبر من المتوقع والمأمول لدى واشنطن, ويبدو ان القوات الأمريكية فى عام 2016 واقعة فى مأزق لا يقل إرباكا عما كانت الجيوش الألمانية والفرنسية والبريطانية متورطة فيه قبل قرن من الزمن. إنها ببساطة عالقة. واليوم تقدم النخب السياسية الأمريكية وصلات من الفقرات الترفيهية للشعب الأمريكى ترتكز على الأوهام فى تحقيق نصر لا يأتى أبدا فى الواقع....الولاياتالمتحدة فى حاجة إلى رئيس ذكي, وهو ما لا يبدو واضحا فى الأفق. والان يفيض الوعى الأمريكى بالغطرسة والغياب التام عن الواقع فلا يوجد فهم متسق لما تقاتل من أجله الولاياتالمتحدة ولا ضد من, ولا حتى لمصلحة من. ويرى باسيفيتش فى نهاية المطاف ان " الخليج العربى لم يعد هو من يستحق القتال من أجله, بل نصف الكرة الغربي, هو ما يجب أن يحتل الأولوية لدى البنتاجون, يجب الدفاع عن كندا وفنزويلا بدلا من الدفاع عن المملكة العربية السعودية والعراق, ويجب ان تعترف الولاياتالمتحدة انها تقوم بجهد لا طائل منه." وهكذا نرى أن المزيد من أصوات النخبة الأمريكية أصبحت ترى الحل ببساطة فى أن تدير الولاياتالمتحدة ظهرها للمنطقة وتبحث عن "حقوق الشرعية" فى مناطق أخرى...حتى دون أن تفكر فى دفع أى ثمن.