«الأكاديميون يحكون مصر» ... هو عنوان كتاب وثائقى صدر عن دار فلاماريون الفرنسية ويكتسب أهميته الآن حيث كتب الدكتور بطرس غالى مقدمته قبل رحيله وأثنى على جمال وعمق النصوص المقدمة من قبل مؤرختين فرنسيتين «آن جوفروا و» «هيلين رينار». وإذا كان هذا الكتاب القيم يجيب على سؤال لماذا ينبهر الفرنسيون بمصر «هبة النيل» فهو أيضا يتناول رؤية المعاصرين لحملة بونابارت لهذا البلد الأسطورى مثل العالمين «مونج» و«دينون» وروائيين مثل «شاتوبريان» وكوكتو و«إريك أورسينا»، وعلماء آثار مثل «شامبليون» و«جاستون ماسبيرو» و«جان ايف امبيرور». وإذا كان هذا الكتاب الموسوعى يحقق أكبر المبيعات فى باريس فهذا يعود على أن ظاهرة الاجيبتومانيا «الولع بمصر» مازالت راسخة فى وجدان الفرنسيين، وأن الدكتور بطرس غالى الذى رحل عن عالمنا فى شهر فبراير الماضى كتب له مقدمة بليغة وحماسية قال فيها إن مصر الأبدية هى أرض الحضارة التى سوف تظل عبر القرون تثير الفضول والمشاعر وتبهر الباحثين... وتعتبر تلك المقدمة رسالة حب أخيرة من الدكتور غالى لوطنه الذى كان يطلق عليه «أرض النيل الخالد». ولقد عبر عن ذلك العشق لوطنه بقوله إنه ينظر إلى مصر ونيل مصر بخشوع وانبهار مشيرا إلى أنه ابن مصر وخادمها مثل أجداده.. الأمناء، ويدعو د. غالى القاريء إلى زيارة مصر من خلال قراءة تصور الرحالة والأدباء وعلماء التاريخ والآثار والفنانين الفرنسيين التى هى إسهام إعلامى كبير فى إشعاع واستمرار حضارة آلاف السنوات، ويطالب بطرس غالى القارىء بأن يغذى معلوماته الخاصة بمصر الحديثة قلب العالم العربى ووجدانه ومؤسسة سياسة عدم الانحياز ورائدة حركات التحرر فى إفريقيا وآسيا، ومبرمة اتفاقية السلام والتى تبحث عن استقرارها ورفاهيتها وحريتها.. ويكشف دكتور بطرس غالى القيمة والقامة عن ميوله الأدبية والفلسفية فى هذا المرجع المهم عن مصر مشيرا إلى أن الأديب الفرنسى بول فاليرى قال: إن الحضارة «قابلة للهشاشة» مثل حياة الإنسان.. كما أنه برغم عظمة الحضارة المصرية وعراقتها وقدمها، فإن مصادفات التاريخ ومراحل التفاؤل مثل حوادث الحياة وإنما هى جزء من تكامل مصر ومن المعادلة التفاضلية لمصرنا اليوم على غرار تلك المشابهات الخفية التى برغم الزمن تعيد إلينا أصداء بعض وجوه الرجال ونظرات النساء من خلال تماثيل الفراعنة أو رسوم وجوه الفيوم! ويختتم عاشق مصر «لم ننته من التحاكى عن مصر».. وإذا كان الدكتور غالى قد عشق هذا الكتاب الموسوعى الذى أدعو إلى ترجمته فهذا يعود إلى حسن اختيار مضمون النصوص المؤثرة حيث يشمل بورتريا لكليوباترا بقلم فرنسوا شامو ودراسة لمصر الإغريقية الرومانية بقلم الأديبة «مارجريت يورسينير» ومقال للكاتب «جان ريتشارد» عن لويس التاسع واعتقاله بدار ابن لقمان ومقالا لرئيس الأكاديمية الفرنسية الأسبق جان دورميسون عن حادث المنصة، أكد فيه أن الرئيس السادات سوف يبقى فى وجدان الإنسانية، لأنه يجسد الشجاعة بكل أبعادها مشيرا إلى أن وباء الإرهاب ينتشر مثل الجذام ليحاصر الكرة الأرضية. ولقد شعر الدكتور غالى بأهمية هذا الكتاب فى ضوء عشقه للثقافة الفرنسية وإيمانه «بالفرانكوفونية»،حيث تناول العمل الموسوعى أيضا «مصر فى عيون الرحالة الفرنسيين» فى القرن الثامن عشر والرسالة الثقافية للحملة الفرنسية والعلاقة بين المعهد المصرى ومكتبة الإسكندرية ومهمتهما المشتركة فى تطوير القيم الإنسانية وتاريخ المعهد منذ إنشائه حتى صدور وصف مصر والديناميكية الثقافية لهذا المعهد فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر وتميزه فى القرن العشرين من خلال أعضائه الموقرين. قرأ غالى بشغف فى الكتاب الموسوعى مراسلات نابوليون بونابارت بمنفاه ب «سانت هيلين» والحفلات التى حضرها نابوليون فى صيف 1798 وهى احتفال النيل والمولد النبوى والاحتفال بالجمهورية الثالثة. كما ركز الباب الثالث على ظاهرة «الاجيبتومانيا» من خلال مقال لشاتوبريان قال فيه: إن مصر هى «مهد العلوم وأم الأديان والقوانين»... وينقلنا الكتاب ليوميات «ديليسيبس» وبناء قناة السويس وتجربته كدبلوماسى فرنسى وعلاقاته بمحمد على وسعيد باشا ووصفه ليوم افتتاح قناة السويس فى 17 نوفمبر 1869.. وتطلعنا هذه الدراسة القيمة كيف ان «بييرلوتى» وهب وأهدى مؤلف «وفاة فيلة» لصديقه مصطفى كامل ونجح فى توجيه صرخة تحذير أنصت إليها العالم عند بناء السد العالى حينما أشار إلى أن هناك تهديدا لجزيرة فيلة بالغرق!. وفى الباب الأخير «مصر وعلماء الآثار» يشرح لنا الأكاديميون عطاء جان ليكلان الذى برع فى وصف إنقاذ فيلة فى القرن العشرين وامبيرور الذى انتشل آثار الإسكندرية الغارقة من بحارها وإدوار نافيل عالم الآثار العبرية ومونتيه عالم كنوز الدلتا أو مارييت باشا نابغة علم المصريات فى القرن ال 19 وكذلك ماسبيرو وشامبليون الذى قال «إننى كلى لمصر وهى كل شيء بالنسبة لى». والقاريء يشعر عند قراءته لتلك الموسوعة عن مصر القديمة والحديثة كيف انه يجب الحفاظ على هذا التراث الجبار الذى أهدرناه فى زمن الفساد والشللية والسلب والنهب.. ولقد اهتم الدكتور بطرس غالى بقضية الحفاظ على التراث وكان رئيسا شرفيا لجمعية أصدقاء متاحف مصر والتى أقرت منظمة اليونسكو بباريس أهمية ترسيخ رسالتها الخاصة بالحفاظ على تراث مصر الذى يعتبر تراثا عالميا فريدا فى اجتماعات المجلس التنفيذي.. ومقدمة الدكتور غالى لكتاب أكاديميون يتحدثون عن مصر لدار فلاماريون أشبه بوصية من أجل أن تبقى مصر فى دائرة شمسها الساطعة فى كل زمان ومكان. الكتاب : الأكاديميون يحكون مصر الناشر: دار فلاماريون الفرنسية